الأذن بوابة العقل وأم الأفكار، قبل أن تظهر الكتابة كان السماع هو بريد الأفكار فقصائد الملاحم من الإلياذة إلى داحس والغبراء تناقلها الناس بالسماع، قصص الأجداد والأسلاف نقلت سماعاً. الكلمات الطيبة والجارحة التي ما زالت عالقة في قلبك نفذت لك من أذنك رغما عن اذنك.
شكل الأذن عند الإنسان وكثير من الحيوانات يشبه القُمع، وكأنه صمم ليسكب في رأسك كل شيء له صوت في محيطك.
فحصيلتنا اللغوية تنشأ منذ الطفولة وقبل أن ننطق؛ بل الأخير هو نتاج للسماع. فالصوت هو غذاء الأذن ومحركها الأول. وأكثر مخاوف الإنسان هي من الحيوانات التي لا تصدر صوت يمكنه سماعه بوضوح مثل الأفاعي والعقارب التي تتسلل بصمت وكذلك السنوريات “الذئاب والأسود والنمور” التي تلوذ بالصمت قبل أن تنقض على فريستها.
عشق الإنسان صوت الطبيعة ومنها صنع الآلات الموسيقية فالناي يشبه صوت الريح، والآلات الوترية والجلدية كالعود والجيتار ولطبول تحاكي أصوات في الطبيعة كالطيور والرعد. وتاريخ الموسيقى هو تاريخ السماع، فمنذ اقدم العصور حتى اختراع النوتة الموسيقية انتقلت الموسيقى بالسماع.
وكانت المقاطع الموسيقية والأغاني تمتاز بالطول، فسمفونيات بيتهوفن وموزرات بالساعات، وكذلك أغاني أم كلثوم وكثير من فناني الفترة الكلاسيكية امتازت مقطوعاتهم وأغانيهم بطولها، لم يكن هنالك أي إشكالية حول طول المقطوعة الموسيقية أو الأغنية. فالجميع يمتلك الصبر فالزمن مرن الإنسان على الصبر، وفي حال كان صبره نافذ فالتقنية حينها تجبره؛ فلا يمكنه أن يتخطى الأغنية بسهولة خصوصاً أن أغلب الأغاني والموسيقى كانت تبث من المذياع فإما تنصت أو تغلقه ولم يكن هنالك من خيار سوى الإنصات فإغلاق المذياع خيار عصي على التنفيذ. ومن بركات الجيل الذي ولدت فيه جيل الثمانينات، أنه جيل عاصر الكاسيتات. مازلت اذكر أننا كنا نسطو على مناكير أخواتنا لنصلح ماتضرر من كاسيتات الأغاني، ونستمع بصمت وصبر لكاسيت كامل ونعيده باليوم ثلاث وربما أربع مرات، فحصيلتنا كلها لاتتجاوز عشر كاسيتات.
فما بالك بالجيل الذي عاصر أسطوانات جراموفون!! فهم أكثر صبر منا.
السماع يغذي الذاكرة!
ويمرن العقل على التفكير، فآفت العصر هي العجلة والسرعة، فعندما تستمع لأغنية أو برنامج إذاعي فأنت تجبر عقلك على التركيز والتحليل، فكل مايقال سيخضع للتأمل.
بل إن كثيراً من الدراسات الحديثة تثبت بأن الاستماع يسهم في تنامي القدرات العقلية عند الإنسان، فالذي يحدث أن الإنسان يقلب الكلمات التي تصل لعقله ويستدعي معانيها ويكتسب مفردات جديدة وهذا الأمر ينعكس على العقل بأنه يعيد تركيب هذه الكلمات بمعاني ويقيم المفاهيم والأفكار، فالعملية أشبه بتروس المكينة التي يحرك بعضها البعض. وينعكس ذلك إيجاباً على القدرة النقدية للإنسان، فأغلب سوء الفهم هي نتاج الاستعجال وعدم التريث وسماع الآخر حتى يقضي من فكرته، فأصبحنا كأننا على خنادق قتال ننتظر الفرصة لنخرج فوهة بندقيتنا بين تطاير الرصاص لنرشق الخصم بما يجود به مخزن سلاحنا.
لنعود قليلاً للموسيقى والأغاني بعد أن عرجنا على فوائد السماع، فالإنصات للاغاني والمقطوعات الموسيقية ينمي الذائقة الجمالية عند الإنسان، لذلك نجد الجيل المخضرم ممن لحق على الأسطوانات والكاسيتات يمتلكون ذائقة موسيقية لايشق لها غبار، فما زالت أغاني طلال مداح ومحمد عبده و سعدون جابر وفيروز وابوبكر سالم وكاظم الساهر تصدح ويعاد سماعها وستخلد في ذائقة الفن،
فمالذي جعلها بهذه المتانة!؟
اعتقد جازماً بأن كتاب الأغاني والملحنين كانوا يأخذون بالاعتبار أن كلماتهم ومقطوعاتهم سيستمع لها جيل مخضرم عاصر ام كلثوم وعبدالحليم حافظ فلا يُمكن أن يقدم هؤلاء شيء لا يصمد أمام هذه الذائقة، لذلك اجتهد الفنان والملحن والكاتب ليخرج قطعة فنية خالدة.
مالذي تغير؟
أزعم بأن دخول ثقافة السوق لحياتنا انعكس على كثير من مناشط الحياة ومنها الفن، فأصبح التسابق بين الشركات يبدأ من السرعة، فمن هو الأسرع للوصول للمستهلك!، وتزامن ذلك مع خروج أفكار تسويقية بدأت في النفاذ لعقول المستهلكين، فالسميع تحول إلى مستهلك وهذه الطامة عندما يقتنع الإنسان بأنه مستهلك.
ومن هذه الأفكار هي:
“أن تركيز الإنسان لا يتجاوز ثواني معدودات!، إذا لم تحصل على تركيزه تركك وانصرف لأمر أخر”
وبدأت الصناعات الاستهلاكية تنطلق وأمام ناظريها هذه القاعدة العجيبة، وانعكس ذلك على الموسيقى والأغاني ومع الوقت بدأت تظهر الأغاني السريعة وتواكب ذلك مع تقدم تقنيات التسجيل وظهور الذاكرة المتنقلة Flash Memory، فالأغاني قصيرة دقيقتين أو ثلاثة، وكذلك الإعلانات سريعة كل شي سريع، بل إن مقاطع الصوت حتى في الواتساب WhatsApp اصبح بإمكانك تسريعها، وعندما تستمع لأغنية بعد عدة ثواني تضغط تخطي Skip.
يجب أن نتوقف قليلاً ونحاكم هذه المعايير التي تم إسقاطها علينا بكل عنف وبدون أن يسمح لنا بمسائلتها،
هل فعلاً تركيز الإنسان لايتجاوز سوى ثواني معدودات!!، إن كثيراً من الشواهد تثبت بأن تركيز الإنسان بإمكانه أن يمتد لساعات وليس لثواني، فعلى سبيل المثال بودكاست فنجان مع ياسر الحزيمي بلغت مشاهداته حتى ساعة كتابة هذا المقال ثمانية عشر مليون!! خلال شهرين!!، وكثير من البرامج حققت مشاهدات واستماع بالملايين وهذا مؤشر سريع على الرغم من أنه غير كافي. كما أن كثير من الأغاني القديمة والأفلام والبرامج حقق مشاهدات فلكية وهي بطبيعتها طويلة ومملة بمقاييس السوق!.
فعندما ندرك بأن تركيز الإنسان الضعيف سببه الأول هو التشتت والذي خلق التشتت هي برامج التواصل الاجتماعي التي جعلت الإنسان يتجول بينها وكأنه يبحث عن شي ولا يجد شي، يهدر وقته على لا شي ويخرج بلا شي.
وهنالك دراسات وكتب تناولت التشتت ومن اجدرها بالقراءة كتاب “مصيدة التشتت” لفرانسيس بووث.
هذه البرامج التجارية والتسويقية هي من خلق التشتت للإنسان واستخدمت الشركات التجارية هذه المشكلة التي كانت الشركات سبب في صناعتها لتعاقب عقل الإنسان ببضاعة ليس لها قيمة ولاذوق. وأصبحت مقولة أن تركيز الإنسان لايتجاوز ثواني معدودة وكأنه قولُ من ربٍ حكيم!
لنعيد للإنسان اتزانه!
ليستطيع أن يرمم ذائقته السماعية ويستطيع أن يعيد التوازن لعقله، فالسماع هو أهم ملكة وبوابة العقل، ومنها تنفذ الأفكار، فعندما نضيق ذرعاً بالمستمع لن نصل لتفاهمات مع الآخرين وسنبقى نتخبط ونقع في سوء الفهم، ولن نتمكن من بناء عقل ناقد وكذلك سينعكس ذلك على ذائقتنا الموسيقية بشكل خاص وحياتنا بشكل عام.