في المراحل المبكرة من التنشئة، يبحث الفتى عن قدوات ومسارات يتشبث بها في طريق حياته، وكون عقل الإنسان يأخذ وقتا طويلا في التشكل لاتخاذ موقف تجاه الحياة، نجد أن الفتى بإمكانه أن يستعرض كل الأفكار المطروحة من السابقين، ويميل إلى إحداها تحت تأثير المجتمع أو الأحداث التي تجري في حياته الخاصة، في مرحلة مبكرة عثرت على الأدب الصوفي، وما يحمل في طياته من عبارات وحكم وقصص وقدوات، وكلما أنهيت كتابا فتحت شهيتي لكتاب آخر، حتى علق في ذهني الكثير من تلك الحكم والتي تتسرب إلى نمط حياتي من حيث لا أشعر، من بينها أني كنت أميل إلى الزهد دون قياس إلى آثاره في واقعي، واقتدي بقصص أعجبت بها رغم أنها تنتمي لعالم لمختلف في ظروف مختلفة عما نعيشه في حياتنا المعاصرة، وعندما تقدمت قليلا في العمر عدت لأبحث عن مدى صحة بعض مما علق في ذهني في موضوع الزهد.
قيل في المناهج الصوفية!
أن (حب الدنيا أصل كل خطيئة)
تحمل هذه العبارة قدرًا من الصحة لأن الطمع والانسياق إلى الرغبات قد تؤدي بك إلى منزلق حذر نحو ما لا يحمد عقباه، إلا أن الدنيا في حد ذاتها ليست شرًا، فكما أننا نستطيع برهنة تلك العبارة وشرحها في سياقاتها الخاصة، نستطيع أيضًا صكَ عبارة أخرى مناقضة وتكون صحيحة، فنقول: (حب الدنيا أصل كل فضيلة)، ثم نأوّل هذه العبارة بأن معناها هو أن كل خير يتصل بالحياة، وحب تلك الخيرات هو ما يجعلك تساهم في النمو وتحقيق مصالحك الشخصية ومصالح الآخرين، ومنذ أدركت أن كل عبارة وإن كانت رنانة لا تحمل في طياتها كل الصحة، وأن الأمر متروك للتأويل والتفصيل، تأملت تلك العبارة الأولى مرة أخرى ووجدت أنها تحمل ما يمكن أن يخدر المرء عن تحقيق ذاته.
في السابق، كنت أرى العظمة في الصوفي الذي خلع عن كل رغباته ليخرج ويتنسّك في الغربة وحيدًا، تاركًا خلفه حياة برمتها من عائلة ومهنة وجاهة؛ ليكون مقصده الوحيد أن يتعبد، كم هو عظيم هذا الشخص الذي ضحى بثرائه ليشارك الفقراء حياتهم الخشنة!
تروي لنا القصص تفاصيل مغامرته والتحولات النفسية التي تحدث بداخله، ناسك يعيش على أبسط الثياب والطعام، مطمئن لا يسعى للمال، مؤمن أن رزقه هو الذي يأتي إليه، وعندما يضعف جسده عن تحمل نمط حياته، تزداد إرادته قوة وإصرار، فهو يرى دنياه على حقيقتها، ماجنة تحاول الإغراء فتفشل، بينما نجحت في إغراء الغالبية العظمى من الناس، لا غرابة فهم العوام، أما هو فينتمي إلى الخاصة، القلة التي تواصل خلع حبها للدنيا حتى لا يبقى للخطيئة أي أصل تنمو عليه.
أردت أن أكون عظيمًا مثله، سوى أنه فاتتني نقطة مهمة، وهي أنه كان ثريا ولديه حياة، أما أنا فالتحول من الفقر إلى الزهد لا يعد تحولًا حقًا، وبينما أنا محروم من فضيلة الفقر بالاختيار تأملت في واقعي وواقع هذا الصوفي العظيم، وأدركت عدة نقاط أخلّ بها هذا الصوفي، ثم سلبت العظمة من نظرتي إليه!
وحللت الأمر كالآتي:
الإخلال بالمسؤولية الأسرية:
الرجل في العائلة لديه مسؤولية توفير الاحتياجات سواءً أكان أب أو أخ، وخروجه عن عائلته لأي غرض كان سوى هذه المسؤولية يعد إخلالًا بالمسؤولية وهروبًا من مواجهة الواجبات الطبيعية لموقعه في العائلة.
الإخلال بالمسؤولية المجتمعية:
كل فرد يكدح في المجتمع هو مساهم في تنمية الاقتصاد حتى وإن لم يدرك ذلك، فالمال الذي يجنيه هو رمزية للفائدة التي يقدمها للمجتمع، والعزوف عن العمل بدافع الزهد في المال هو زهد عن إفادة المجتمع، وإرادة مع سبق الإصرار للبطالة والكسل، وهذا نقيض ما يبني المجتمعات، ويدفعنا نحو التقدم والنمو.
الأنانية الدفينة:
النقطة التي ينطلق منها الناسك في الأساس لا تراعي إلا ذاته فقط، إرادته للفضيلة في هذا السياق هي إرادة مشوبة بما هو أعمق من (حب الدنيا) وهو حب الذات، وهي ليست رذيلة بالأصالة ولكنها تكون كذلك عندما تكون على حساب الآخرين، سواء كان الدافع لهذه الأنانية دافع روحي أو مادي، وهنا تكمن المفارقة، فالأمثل هو أن لا تكون متمحورًا حول ذاتك فقط، وتريد المصلحة لها بالحصر، وإنما توسع نطاق الإدراك ليطال دائرة أوسع من المجتمع، وتتصرف فيما يخدمهم.
التحول لعالة:
هذا الفرد الناسك حتمًا سيحتاج إلى مأوى ومؤونة بالضرورة، فالحياة المدنية لا توفر لك مساحات آمنة لمن لا يدفعون الإيجار، ولا أشجارًا مثمرة تقطف منها على طريقك، إنما كل حاجة ضرورية تكلفك ثمنًا ماديًا في المقابل، وسيصل بالعازف عن العمل إلى الإضرار للحاجة، والتي تحوله مع مرور الوقت إلى عالة، ولك أن تتصور مجتمع مليء بمن لا يساهمون في بنائه، مجتمع كهذا آيل للسقوط لا محالة!
ختامًا!
النهج المتطرف من الزهد يصنع قدوات مضللة للمعجبين بهذه الشخصيات، فنمط الحياة المناهض لمظاهر الحياة نفسها لا يصلح إلا لنوعين من الناس، وهم:
الأول: ينتمي لعائلة ثرية
حيث تحظى عائلته باستقرار مادي، ومتى ما ساءت عليه الأمور يستطيع العودة إلى حياته السابقة، وهذا ما ينتمي إليه معظم الشخصيات الزاهدة التي نقرأ عنها، قصصهم تحمل في بدايتها أنه في حالة الترف العالي، لذلك تكتسب تلك القصص جمالها في قيمة التضحية التي يقدمها، لكن تلك القيمة الجميلة هي ذاتها التي تجعلك لا تعوّل على تجربته ومغامرته، فمنزله الذي يستطيع العودة إليه بمثابة شبكة الحماية في حال السقوط، ومن يقفز ولديه شباك تحميه من الارتطام في الأسفل، ليس كمن يقفز ولا شيء يحميه.
الثاني: هو معدم ولا فرصة له للنجاة من فقره
فيتصالح مع هذا الفقر بشاعرية الزهد المطلق وشيطنة كل ما ينتمي للحياة كنمط حياة سلبي يعطيك مناعة ضد الشعور بالحرمان، على مبدأ المثل الشعبي: (اللي ما يطول العنب، حامض عنه يقول).