أن تكون مهتمًا بالفنون فذلك يزيد من فرص إقامتك لعلاقات اجتماعية محببة لك، وبالتالي يزيد من مستوى توافقك الاجتماعي، وتوافقك مع ذاتك.
كثيرة الجلسات التي حضرتها في إطار مناقشة أحد أنواع الفنون؛ فيلم، كتاب، ندوة وغيرها. أتوجه دومًا لهذا النوع من اللقاءات بتوقعات عالية نابعة من كون أن الفنون تحتم على أصحابها أو المهتمين فيها طريقة معينة في الطرح والاستماع والنقاش والتعامل مع الآخر، وقبل كل ذلك طريقة مختلفة في التفكير. وأُحبط كثيرًا عندما لا أجد هذا النوع من الانعكاس، وحدث ذلك مرات.
لكن مؤخرًا حظيت بجلسة مثيرة، خرجت منها أُحدّثُ نفسي: «لم أعلم بوجود مثل هذا المجتمع الجميل هنا» وكررت التجربة.
شاهدتُ إعلانًا لنادي السينما بالأحساء عن جلسة حوارية لمدة ساعتين لمناقشة فيلم تسجيلي سعودي قصير، ذهبت هذه المرة بلا توقعات.
لكن ما حدث أن الساعتين امتدت لما يفوق الأربع ساعات، إلى أن انتهى الحديث في مواقف السيارات مع مجموعة صغيرة، ومضى الجميع لكن حديثهم لم يرغب أن ينتهي؛ يزخر كل منهم برؤى مختلفة كليًا عن الآخر؛ التخصص العلمي، المذهب الديني، الاهتمامات الأخرى، والعمر وغيره. لكن جمعهم شغف الفن والحديث عنه وانعكاسه على حياتهم. نعلم جميعًا أنه ليس من السهولة أن يتحرر المرء من الثقافة التي يحملها، الأفكار التي نشأ عليها، ووعي الإنسان بذلك يمده بمنظور مختلف لرؤية الأمور، ونجدها بالتالي تنعكس في جميع جوانب حياته.
حب النقاش والرغبة في المعرفة وحسن الاستماع واحترام رأي الآخر، والحديث بدرجة صوت معقولة. سمات عدة لاحظتها تلك الليلة، وهي ما أبحث عنها في كل مكان سواء كان معني بالفن أم غير ذلك.
لكن كما أسلفت أرى أنها بديهية لدى أشخاص مهتمين بالفن والثقافة، وإلا فإنه لم يتغلغل إلى روحك جيدًا.
مما يقودني لسؤال؛ من تخلو حياتهم من أي منفذ لتذوق الفن، كيف هي أحوالهم؟ أو بالتعبير الحديث: كيف هي جودة حياتهم؟ كيف يتواصلون مع ذواتهم؟
لا أملك إجابات علمية هنا؛ لكنني أعلم أننا نستطيع أن نلمس أرواحنا الداخلية عن طريق الفن؛ لوحة، أغنية، معزوفة، قصيدة.
«أنخل الكلمات، الحديث
تحصل على أغنية
وأنخل الحقد والغضب والحب
تحصل على أغنية
وأنخل الأحداث وشؤون الناس والحياة كلها
تحصل على أغنية». – رسول حمزاتوف
في مرحلة ما فقدت هذا الشعور، ففقدت نفسي – لم أستعدها بالكامل حتى الآن لكن استطعت أن أتسلل إليها من عدة مداخل – لأني أعلم مسبقًا أن هذا الطريق الوحيد لإنعاشي.
يسمح لنا الفن بإدراك ما نهتم به، يمنحنا التركيز على ما نملك، والقدرة على التراجع للتقييم والتفكير؛ هذا الإدراك يجعلنا أكثر قدرة على ما نريده في حيواتنا، حينما تعرف الشعور الصحيح الذي تبحث عنه، فإنك لن تضل أبدًا.
ويظهر جليًا اهتمامنا هذا من طريقة حديثنا، هدوئنا، انصاتنا، ويمتد بشكل واضح إلى إحاطة أنفسنا بما نحب، وبالأخص ما نبرزه في أماكن عيشنا.
لكن هل تحول الاهتمام بالفن في بعض الأحيان إلى مجرد ادعاء، أو هل بالإمكان أن يكتفي صاحب هذا الاهتمام بالرأسمال الاجتماعي الذي يغدقه عليه مجرد الاعتراف بهذا الاهتمام، وبالتالي يجذب إليه الكثير من محبي الظهور وادعاء المعرفة؟ يقول هابرماس: «مع طغيان الرأسمالية الاحتكارية والانتقال من العقلانية إلى الاستهلاك، تحول الفن إلى ترفيه يميل بدلًا من انصاف الواقع، إلى تقديم بديل أكثر استساغة للاستهلاك، ويمكن أن يؤدي إلى انغماس غير شخصي في تحفيز الاسترخاء أكثر من الانغماس في الاستعمال العام للعقل».
مما قد يجعل البعض يفكر! طالما بإمكاني جني ثمرات هذا الجانب من المعرفة والثقافة بأقل مجهود فما الذي يمنعني من ذلك؛ لن يستطيع أحدهم الولوج لعقلي طالما لم أتحدث على الأقل.
سرقة الأدب دون إنتاجه، تقييم الأفلام دون مشاهدتها، تصوير الكتب دون قراءتها، والقائمة تطول. إن لم يهذبك الفن فهو لم يوجد من أجلك.