هُنا الإنسان بوصفه الكائن الاجتماعي، السمة التي لم تتعرض للتهديد لملايين السنين الماضية بل كان الوجود في جماعة و التضحية من أجلها مدفوعًا بالحاجة لأن يكون الفرد في جماعة إلى جانب مشاعر الانتماء والولاء.
حتى أتى طوفان الفردانية الجامح!
الذي فرضته عوامل كثيرة بدأت من الثورة الصناعية عندما تحول الفرد من العمل لصالح جماعته إلى أن يكون عاملًا لصالح منظمات أخرى و في مجتمعات مختلفة كليًا عن مجتمعه الذي ينتمي إليه و تقلص وقت الأسرة والأصدقاء والأقربين وبات شيئًا لا يذكر نسبة لعمر الإنسان.
ومن بعد ذلك،
تأتي الثورة التقنية لتباعد الوجوه أكثر و لتحضر بديلًا عن الزيارات والاتصالات المباشرة، تلك القنوات الحديثة التي أخذت تروّج لما يخدم استمرارها من تعزيز قيمة الفرد و تقديم نصائح غاية في الأنانية في أطباق المصلحة الشخصية و إنصاف الذات حتى بات تقديم الآخر على الذات عبئًا لا تطيقه الروح ما جعل كثيرًا من العلاقات تفسد. لا لشيء أكثر من أن الطرفين لا قابلية لهم لأن يقدما الخدمات على حساب أي منهما ولم يعد الإنسان قابلًا لتقديم حتى الأشياء المجانية دون مقابل لأن ذلك لا ينسجم مع عصر رأس مالي فرداني و يمنحه شعور بالاستياء لأنه لم يكسب شيئًا من هذه الصفقة.
الشعور الذي ما إن يتملّك الإنسان إلا و يحبسه في غياهب الأنا دون أمل في خروج قريب.
هذه الأنا!
تبقي الإنسان في مرحلة الطفولة بعيدًا عن النضج الذي هو العامل الأساسي في إنجاح العلاقات الإنسانية.
يقول جوردون بيترسون، عالم النفس السريري بجامعة تورنتو الكندية، أن الإنسان لا ينمو وينضج حتى يُنجب و يكون في حياته من هو أهم منه. و يقصد بيترسون أن تتحوّل عقلية المرء من (نفسي – أولًا) إلى (الآخرين – أولًا) و ذلك ليس بإهمال الذات و إيذائها إنما برعاية مصالح الآخرين كما هي مصالح الذات حسب التقييم العام للموقف.
هذه العقلية تتضح عندما يحضر الصراع بين هوى الفرد و رغبات/حاجات الآخر و ما إن يتغلب هواك على حاجات غيرك فإنك ما زلت في عقليّة (نفسي – أولًا).
يبدو أن بيترسون في هذا العالم الفرداني لا يعوّل إلا على الإنجاب كوسيلة وحيدة لاختراق ترسانات الأنانية المحيطة بعقولنا،
حيث تحضر مشاعرنا الجيّاشة تجاه أطفالنا لتعقلن رغباتنا و تهذّب أنانيتنا و يبدأ ذلك بالمرة الأولى التي نقمع رغبتنا في القطعة الأخيرة من الكاكاو لنتركها لفلذات أكبادنا. هذه القطعة تكبر لتكون هي المال الذي ندخره من أجلهم و الصحّة التي نتمنى أن تكون من نصيبهم بدلًا عنّا.
السؤال بعد كل هذا:
هل يكفي الإنجاب للانتقال إلى عقلية (الآخرين – أولًا) أم قد يصبح أبناؤنا مجرد جزء منّا فتتحول أنانيتنا وعدم نضجنا من كونها مقصورة على فرد واحد إلى أن تشمل عدة أشخاص في فرد واحد؟
فلا نستطيع بشكل من الأشكال التفكير بالآخر و احتياجاته إلا إن كان نحن أو من أصبح نحن مؤخرًا كأطفالنا. إجابة تأخذنا إلى عبارة أشمل مما قال بيترسون و هي؛ لكي تنمو يجب أن تتعلّم الإيثار، الإيثار بكل أشكاله من أجل الغرباء قبل أن يكون للأبناء. فإن فيه مقاومة لنزعات الذات و تغليب مصلحة الآخر الأساسية على مصلحة الذات الكمالية.
نحن بحاجة إلى أن نقف برهة قبل الولوج إلى أي علاقة و خاصة ما قبل الارتباط وتكوين الأسرة، فالإيثار شرط من شروطه فهو القاعدة التي تبنى عليها الرحمة والعطاء في عصر باتت فيه تضحية آكلة للروح و منافية للمصلحة الشخصية، و علينا ألا ننسى أن في الارتباط انتفاء للشخصية المطلقة و حضور لشخوص متحدة لا يستقيم مع هذه العقلية التي يبنيها محتوى التواصل الاجتماعي بكافة البرامج و التي تعزز فينا شعور الاستغلال بمجرد بذل الجهد من أجل الآخر والإنفاق المادي من أجله.
و لا يقل أهمية عنهما،
في الارتباط هي القدرة على التوفيق بين ما نحن عليه قبل ارتباطنا من أفكار و ما تحتاجه العلاقة من تنازلات حيث من الواجب تحقيق قدر متوازن من المنح و الأخذ لتجنيب العلاقات المنحنيات الخطرة.
فإن الإيثار ليس في مال و جهد بدني فقط، إنما أيضًا على صعيد ما نؤمن به، إثبات الوجود ليس أمرًا صائبًا في كل الأحوال، وإلا سيصبح رعونة.