من منا لا يهرب كثيرًا من واقعه إلى عالم الخيال؛ عالم تتحقق فيه الأحلام والأمنيات، نعود به إلى ما فات، ونفكر بما هو آت، أو نهرب به من عيش بعض اللحظات. الخيال له العديد من التعاريف، وقد فضلت ذكر تعريف شاكر عبدالحميد للخيال، وهو: “عمليّة يقوم بها الإنسان بإرادته وبكل مرونة، يستطيع من خلالها أن يتجول في عالمه الخاص بواسطة عقله، وتكوين الصور وتحريكها حتى يصل إلى ما يريده”.
ولكن!
قد يتعدى هذا الخيال كونه نشاطًا بسيطًا يمارسه الشخص بإرادته إلى نشاط مفرط ومسيطر يتعارض مع الأداء الطبيعي للفرد وممارسته لأنشطة يومه؛ ولهذا يجب علينا إدراك الفاصل بينهما والحذر من الوقوع في شركه.
أحلام اليقظة المفرطة:
هذا الإفراط في الأحلام والخروج عن السيطرة يطلق عليه “أحلام اليقظة غير التكيفية أو المفرطة”، وقد وُصِف هذا المصطلح لأول مرة من قبل أستاذ علم النفس “إيلي سومر” سنة 2002م، الذي وصفه بأنه “نشاط خيالي مكثف يحل محل التفاعل البشري و يتعارض مع الأداء الأكاديمي أو الشخصي أو المهني”، وغالبًا ما يدوم الخيال لعدة ساعات؛ لذلك وُصف بالإفراط والخروج عن السيطرة.
وهذه الحالة غالبًا ما تكون وسيلة إلهاء أو تكيف أو هرب من واقع نعيشه، وتسدّد احتياجات قد يصعب علينا الحصول عليها في الواقع.
الفاصل بين الاثنين:
في بعض مسائل الحياة، هناك فاصل بين بينين، تصعب معرفته في كثير من الأحيان؛ ولهذا لا ندركه إلا بعد “ما يطيح الفأس بالرأس”. وهنا قد تتساءل: ما الفاصل؟ أو كيف نعرف أن ما يحصل داخل عقولنا هو مجرد أحلام طبيعية أم أننا دخلنا في عالم أحلام اليقظة المفرطة؟ وما أنا متأكدة منه هو أنك تستطيع الحكم على غالبية أمور حياتك من خلال رؤية مدى تأثيرها عليك؛ فمتى ما وجدت أن هذه المسألة بدأت تؤثر في سير حياتك اليومية بشكل سلبي وتعطلك وتلهيك عن مزاولة أنشطة يومك، فهنا بكل تأكيد يوجد خلل، وبذلك يكون الفاصل بين الأحلام الطبيعية وأحلام اليقظة المفرطة هو شدة تأثيرها على مجرى يومك وسيطرتها عليك في مزاولة أبسط الأنشطة التي كنت تقوم بها سابقًا بكل سهولة.
آلية سيطرة الأحلام:
في المقام الأول، فإننا عندما نكثر من انفصالنا عن الواقع ونعيش في عالم الخيال، سيصبح هذا بمثابة عادة لنا لا يكتمل اليوم إلا بها. ومرة بعد مرة، نخوض في هذا الخيال بشكل لا إرادي، وتصبح ممارسته لا تقتصر على وقت الفراغ فحسب، بل حتى ونحن منخرطون في روتيننا وأعمالنا اليومية، فنكون في واقعنا جسدًا لا أكثر. وبمرور الوقت، سنجد صعوبة في التركيز على أعمالنا بشكل كامل والقيام بها دون تذمر أو هرب منها أو في أفضل الأحوال القيام بـ”شغل أي كلام”. وقد نلتزم، ونقوم بما هو مطلوب على أكمل وجه، لكن بمجهود أكثر من اللازم.
ومن المؤسف أن السيطرة لا تكتفي عند هذا الحد، بل ستزداد إلى حد أن يصل تأثيرها إلى شعور بأنها وقعت فعلًا! فعند الانفصال المبالغ فيه عن الواقع والعيش في الخيال، سيشعر الشخص بحالة من النشوة والانبساط والإنجاز، والحصول على المراد، الذي يعمل بدوره على إيهام العقل والتثبيط من دافعه وعزيمته في الواقع؛ فهو بالفعل قد شعر بعظمة شعور الإنجاز وتحقيق الرغبات، مما سيقلل رغبته في الحصول على هذا الشعور مرة أخرى، فبالتالي تقل رغبته في الاستمرار والسعي والمثابرة. فلماذا قد يلجأ إلى الطريقة الصعبة لتحقيق أهدافه في حين أنه يوجد طريقة أسهل وأسرع للوصول إليها وبجهد أقل؟
وكما ذكرنا سابقًا، أصبحنا نواجه صعوبة في الالتزام بمهامنا وممارسة روتين يومنا، مما يجعلنا نختار الطريقة السهلة دون غيرها. وقد يمتد أثرها في كثير من الأحيان حتى يصل إلى الجانب الاجتماعي للشخص، فيفضّل الشخص الخوض في عالمه الخاص عوضًا عن الانخراط في الأنشطة الاجتماعية، ويتخيل أنه يعيش علاقات صحية مع الأشخاص من حوله ويعيشون في سعادة وهناء، لكن في واقعه! علاقاته تتدهور أو في أحسن الأحوال تصاب بالركود.
ناهيك عن شعورنا بالألم والقلق والخذلان بمجرد العودة من عالم أحلامنا إلى واقعنا؛ عندما نستوعب أن لا شيء مما كان في خيالنا موجود؛ مما يجعلنا نهرب من هذه المشاعر وهذا الواقع ونلجأ إليها من جديد. وهنا تكمن السيطرة، نحن نرغب في إيقافها، ومع ذلك مازلنا نلجأ إليها.
إذاً، كيف نستعيد السيطرة؟
نأتي هنا للأهم، كيف يمكننا استعادة سيطرتنا والبدء بتحقيق ذواتنا وأهدافنا دون تضييع المزيد من الوقت والجهد في عالم من سراب؟ وحقيقة يجب التنبيه عليها أن التحدي في هذه المسألة هو في السيطرة عليها وليس في التخلص منها، فالأحلام بطبيعتها نشاط طبيعي في حياتنا.
لذا، لتكن خطوتنا الأولى بالنظر إليها من جانب مختلف، وهو اعتبار هذه الأحلام بوصلة لذواتنا؛ فنغيّر نظرتنا لها من أنها مجرد أحلام لا معنى، ولا أساس لها، ولا سيما أنها مضيعة للوقت والجهد، وننظر إليها كرغبات واحتياجات تشكلت على هيئة أحلام، فنفهم من خلالها ما نريد وما نحتاج إليه وكيف نرى أنفسنا في المستقبل؟ فنكون بذلك قد اكتسبنا معرفة أكبر بذواتنا.
نبدأ بكتابة هذه الأحلام والخيالات وحصر الاحتياجات والرغبات الموجودة فيها، مما يساعدنا على تحديد أهدافنا بناءً على هذه الرغبات والاحتياجات، ووضع خطوات صغيرة لكل هدف تساعد وتسهل الوصول إليه، وبذلك نحول هذه الأحلام المستحيلة إلى أهداف عملية وقابلة للتحقيق.
وفي حالة أحلام اليقظة المفرطة، غالبًا ما تكون الموسيقى والمشي ذهابًا وإيابًا من أكبر محفزاتها، وتختلف المحفزات من شخص لآخر، لكن المهم هو معرفة وإدراك هذه المحفزات والابتعاد عنها قدر الإمكان، واستبدالها بما نحب ونميل إليه من بودكاست أو برامج وغيرها من الأنشطة التي نملأ بها وقتنا ونستغله بما يعود علينا بالمنفعة.
عدو الأحلام المفرطة هو الانشغال، وبذلك يكون محفزها الحقيقي هو الفراغ، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من الفراغ تأتي المفاسد”، فهو باب لكل آفة، وهو يجعلنا كالريشة في مهب الريح، أينما هبّت رياح النفس اتجهنا معها.
ولنعلم أنه لا يُقصد بهذا الكلام الفراغ المؤقت والقصير نوعًا ما الذي تحتويه أيامنا، فهو أمر طبيعي، ولا بد منه، وإنما فراغ الهدف والمعنى في حياتنا. فنعيش في حالة من الضياع والتيه ولا نعلم أين نتجه، كيف؟ وماذا نفعل؟
فالسير في حياة خالية من هدف نسعى إليه ومعنى لحياتنا وأفعالنا هو سير بلا وجهة، فيجب على كل شخص منا التخلص من هذا الفراغ وأن يكون حريصًا ومتمسكًا بوجود معنى في حياته وأهداف يسعى لأجلها.