أحمل ذكرىً حنونةً من طفولتي. ربّتني أمٌ حازمة؛ الخروج بعد صلاة العشاء ممنوع أيام الأسبوع، والنوم خارج المنزل محرّم في جميع الأيام، ولا سهر بعد تناول طعام العشاء. وهذه القاعدة الأخيرة هي ما جعل الذكرى تبقى بعد مرور ما مر من السنين.
في ليلة من ليالي الإجازة الصيفية التي تعلو خلالها ضجة مكيف الشباك في محاربته الحرارة المنبعثة من الزفلت، والجدران، والنوافذ، وكل مكان. كنت أنظر إلى السقف وأحسب الأيام حتى يعود صديق طفولتي من بلده الأم. أتحسّر لأنه لن يعود قبل شهرين، وأفرح لأن الدراسة لن تعود قبل تلك المدة أيضًا. فهو يسافر في أول أسبوع إجازة ولا يعود إلا في أسبوعها الأخير.
وفجأة، يُفتَح الباب قاطعًا حبل هواجسي. تدخل أمي. تهمس كي لا تستيقظ أختي الصغيرة: «تبغا تتفرج تلفزيون معايا؟»
في تلك الليالي كنا نجلس حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر، وأحيانًا تطول جلستنا للفطور واستيقاظ أبي. أمي صارمةٌ في مواعيد النوم، لذا سهرنا ليس منطقيًا. لكن بصفتي طفل في السابعة لم أهتم بأسباب الارتخاء المفاجئ لقبضتها. فأسئِلتي تقف عند حد: «ماما، أيش بنأكل وأيش بنتفرج؟»
ثم مرّت الأيام وعاد صديق طفولتي كما عادت الدراسة، ولم تعد أمي تطلب مني السهر معها.
رغم هذا كنت أتسلل أيام الأسبوع إلى غرفة المعيشة بعد منتصف الليل. أراها من زاوية الممر الضيقة، جالسة في غرفة المعيشة الصغيرة المفتوحة على باقي البيت. تجلس فوق الكنبة الخضراء وفي يدها الريموت عاجزةً عن البقاء على قناة واحدة.
مرّت أيامٌ مزيدة ودخل الآيفون بيتنا. أصبحت لا أراها في غرفة المعيشة – التي أصبحت رمادية – آخر الليل، ولكن في المرحلة الثانوية، وفي قمة تمردي على ساعتي البيولوجية، كانت تراسلني يوميًا قبيل الفجر لأغلق باب الشقة الذي نساه أبي أو لآكل العشاء الذي رفعته لي. استبدلت أمي التلفاز بالهاتف ولم تجد بديلًا للأرق.
تغسِل وجهك. تفرّش أسنانك. تضع زجاجة الماء بجانبك. الغرفة مظلمة. مخدتك ولحافك باردان. ما تختبئ تحت اللحاف حتى يرتعش جسدك حماسًا لفكرة استلقائك أخيرًا على مرتبةٍ مريحة بعد يومٍ شاق طويل. جاءت اللحظة التي انتظرتها منذ استيقاظك صباحًا بجفونٍ مثقلة. وإن كنت شخصًا دراميًا لعلك قلت حرفيًا: «والله لا أنام عشرة ساعات لمّا يجي الليل.»
هيّا، جاء الليل؛ نَم. لا، غالبًا لن تنام. غالبًا المسافة بين الشمس والقمر أقرب من المسافة بين عينيك والنوم.
وغالبًا زارتك آنسة صغيرة ليلتها. آنسة أتخيلها بجسدٍ نحيل وشعرٍ قصير وصوتٍ مزعج لا تتوانى عن استخدامه يزيح النوم عن جفني ميت. آنسة ملحّة لا تتأثر بتدريبات التنفس التي يُقال إن أفراد الجيش الأمريكي يطبقونها ليناموا في (90) ثانية فقط.
قد تزورك الآنسة أرق مرة في الشهر وقد تصبح رفيقتك اليومية. قد تزورك لعدة أسباب: شايل هم وتفكر ألف مرة بألف شيء؛ مستقبلك وترقياتك وأحلامك. ماضيك وأخطاءك وحماقاتك. الشيء الغبي اللي اقترفته (أو قلته) قبل سبع سنوات، أو حتى جملة سمعتها، فتبقى مستيقظًا تفكّر: «أيش كان يقصد لما قال كذا؟ وليه ذكرَت فلانة؟ ووين راح اليوم؟ وكيف عدّت كل هذه السنوات بسرعة؟»
هذه الآنسة تفتقد كل المهاراتٍ الاجتماعية، فتزور الجميع رغم ألا أحد يطيقها. هي ضيفةٌ ثقيلة لا تهتم بعدد المرات التي تلمّح لها برغبتك بذهابها، فمهما تقلّبت من جهة لأخرى لن تفهم وتنصرف. تفقدك الإحساس بالوقت، وإن لم تنتبه قد تصيبك بمسٍ من جنون. تتشبث بك بيديها وقدميها شديدتي النحافة. تتعلق بك رافضةً مغادرتك ولو ذرفت الدموع. وتبقيك على مرتبتك الباردة المزودة بأحدث التقنيات المساعدة على النوم غير مرتاحٍ كأنك مستلقٍ على سريرٍ من مسامير معدنية.
والآنسة شديدة الذكاء، فهي لا تقبل الحلول السهلة على غرار: لا تفكّر بالغد! والسبب يعود إلى كونها شخصية حقيقية ثلاثية الأبعاد؛ صحيح أن مصدر قوتها الأصلي هو قلقنا من المستقبل ولكنها تتقوى أيضًا بالإحساس بالندم. سواءً لقرارٍ خاطئ في الماضي أو ضياعٍ لليوم. وقد تقول لك: «تخيّل يا فلان يومك فُقِد إلى الأبد. لن يعود لك. وأنت لست مهتمًا بالغد فقط، بل تريد أيضًا أن يعود اليوم. فكيف تنام الآن وتؤكد ضياع يومك؟!»
في حربي معها، لم أستطع الانتصار إلا بمعاركَ تعد على يدٍ واحدة. علمتني الخسارات التي تجرعتها انجذابها إلى الإحباط، والندم، وإحساس الضياع. فهي آنسةٌ سامة كما ترى والسلاح الوحيد الذي استطاع التأثير عليها – غير بنادول نايت – كان سلاح عيش يومي بطريقةٍ أنا راضٍ عنها ولو جزئيًا.
وهذا ما عليك فعله: عش اليوم كما تريد حقًا أن تعيشه حتى لا تزورك آخر الليل، فعكس الشيطان الذي ينهزم حينما تغطّي كلتا قدميك، هي لن يعيقها قطنٌ وبوليستر عن سحبك وإيقاظ مضجعك.
عندما أسترجع ذكريات سهري مع أمي ألاحظ أننا الوحيدان اللذان سهرا تلك الليالي.
أختي تلحق بنا وأبي يستيقظ، لكن دائمًا أنا وأمي وحدنا من يبدأ تلك الليالي الحنونة الدافئة. نجلس على الكنب الأخضر. وكعيوننا التي ترفض البقاء في محجرها لننام، لا نقف على قناةٍ واحدة أكثر من دقائق معدودة. نتناول وجبةً متأخرةً أحيانًا. قد أنام على حضنها فتحملني إلى غرفتي وقد تنام هي فأغلق التلفاز وأيقظها لتذهب إلى غرفتها.
ويتجاوز الأمر السهر. فكل شيءٍ يخص عادات النوم نتشاركه. النوم الخفيف الذي يتعكر صفوه عند أي صوتٍ أو لمسة. إيصال الليل بالنهار سهرًا. الصداع المزمن. الفرق الوحيد هو أنها تحارب قل نومها بعصبةٍ تربطها على رأسها وأنا اخترت البنادول علاجًا لجراح الآنسة أرق.
أما الآن، بعد انتقالي للرياض بحكم الوظيفة. أتساءل في الليالي المزعجة الطويلة – مثل ليالي كتابة هذه المقالة – عندما تكون الآنسة أرق ضيفةً ثقيلةً عليها، مَن يسهر مع أمي؟