كيف حالك؟
بخير ولكنّي متعبٌ قليلًا، متعبٌ كثيرًا، متعبٌ على الدوام!
أليست واحدة من تلك الإجابات التي سترد بها إذا سألك أحدٌ عن حالك الآن؟ يبدو في حياتنا الحديثة أن التعب أصبح ضيفًا ثقيلا مقيمًا بيننا على الدوام، بل صار صفة يومية يصعب نفيها بالكامل! رغم أننا نعيش في عصرٍ يتسم بالسهولة الفائقة في الحياة اليومية، فكل شيء بات سهلًا أكثر من اللازم إذا ما قارنّاه بعصورٍ أخرى مضتْ، فلماذا إذًا يلازمنا التعب رغم ذلك؟
السماء هي السقف الوحيد!
قديمًا كان الكفاح من أجل الحياة، وفي عالمنا الحديث بات الكفاح من أجل حياة مثالية، حيث يرغب الناس على الدوام في تحسين أوضاعهم لترقى لمستوى خيالاتٍ اكتسبوها من الأفلام ومنصات التواصل الإجتماعي، وتلك الخيالات لا يمكن أن تتحقق بشكل كامل، فالحياة الواقعية ليست فيلمًا أو مقطع (Story) قصير. وهنا مكمن الشقاء الحديث والإحساس الدائم بالتعب؛ فالناس في جري محموم ومستمر للوصول لهدف كبير وضخم ومثاليّ حد الغثيان. وإنسان العصر الحالي لا يكف عن رفع سقف طموحه حتى باتت السماء هي سقفه الوحيد وما دونها لا يُرضيه، فأيُّ راحةٍ سينعم بها من يُلاحق هدفًا في الخيال؟
نحن ننخدع حينما يتم استبدال أهدافنا اليومية القابلة للتحقق، بأخرى كبيرة وضخمة، تعمل كصخرة تعرقل مسيرنا، وتبطل الشعور بأي إنجاز، إذ يقول برتراند راسل «لا يمكن أن تكون هناك قيمة للكل ما لم تكن هناك قيمة للأجزاء».
الهدف الكبير يشبه بضخامته الأخ الكبير في رواية جورج أورويل الشهيرة (1984)؛ مرعبٌ ومخيف ويراقبك على الدوام، لذلك نحن نعاني مع أهدافٍ تسيطر علينا وتتحكم في حُريتنا، فكل شخص بات ديكتاتورًا على نفسه، يُقيم لها محاكم التفتيش، ويقودها كل ليلةٍ إلى المقصلة! فلا يمكنه أبدًا أن يتنفس الصعداء ويرضى عن نفسه إلا حينما يحقق هذا الهدف الخيالي، والنتيجة إحساسٌ دائم بالشقاء يلازم الإنسان الحديث كأثرٍ جانبيّ لا شفاء منه.
أنت تحقق إنجازات مدهشة، ربما عليك أن تستمتع بها وتنعم بإحساس الإستحقاق والوصول والهدوء، ولكن حينما تقارن إنجازاتك بأهدافٍ غير عقلانية وضعتها لنفسك، تُصاب بخيبة أمل كبيرة. فتبدو متعبًا على الدوام، مشتتا، تتعاطى النصائح الوهمية وكتب التنمية البشرية وقصص النجاحات الدرامية كالمخدرات. فتشتري الوهم، ويُباع لك الهواء حرفيًا، فكل الأهداف التي يُروَّج لها في المجتمعات الإستهلاكية لا يمكن قياسها ولا التحقق من الوصول إليها؛ مثل تحقيق الذات والشهرة، الجسد المثالي والعلاقات العاطفية التي تشبه قصص الأغاني، هذه معايير لا يمكن وصفها بشكلٍ واضح وبالتالي لا يمكن قياسها أو التحقق من حدوثها، فتبدو كالهواء يتمدد بشكلٍ دائم ويأخذ أشكالًا متعددة ومتغيرة.
الشعور بالرضا في العالم الحديث يعني استكفاء ذاتي، لحظات من السكينة والهدوء، وعدم الحاجة لإستهلاكٍ شَرِه، فأي كابوس ستعيشه الشركات حينما ترضى عن ذاتك وتستمتع بسكينة ذاتية لا تكلفك شيئًا ولا تتطلب منك الذهاب للتسوق؟ لذلك يجب أن يظل المستهلك في حالة عدم رضا دائم يضمن بقاؤه مستهلكا شَرِه.
عقول لا تعرف الراحة!
قديمًا ارتبط تعريف التعب والشقاء بعُمال المناجم والمحاربين والمسافرين لأماكنٍ بعيدة، أيّ أنه كان تعريفًا يختص بالجسد وحالته الصحية. ولكننا اليوم ونحن نمارس أغلب أعمالنا اليومية قعودًا خلف مكاتب وثيرة في غرف مناسبة، نبدو أننا مرتاحين، ساكنين، ولكن في داخل رؤوسنا عقول لا تعرف الراحة. فقد تحول التعب في عصرنا الحديث إلى إرهاق نفسي مستمر، مشاعر تنمو بداخلنا وتدفعنا للتوتر والقلق، وهذه المشاعر تتحول لآثار بدنية، وتكرر هذه الدائرة نفسها بشكل مستمر ما لم تكسر هذا التعاقب راحة حقيقية.
يلازمنا التعب وتغادر عقولنا الراحة حينما نُجبر على عيش حياةٍ لا تشبهنا، فقط لأنها منطقية لدى المجتمع من حولنا، نجد أننا في وضعٍ يبدو مريحًا لكنه لا يلائمنا، فنعيش في حالة عراك دائم بين ما نريده فعلًا وما نجبر على فعله، ويصبح أن نكون على طبيعتنا أمرًا يتطلب الكثير من الطاقة، وهكذا نصل لحالةٍ من الإعياء العاطفي؛ وهي حالة من التعب في الحياة الحديثة تنتج من رفضٍ مستمر لمشاعرنا الإنسانية وكبتها ومن ثم استهلاكها في غير موضعها، كالهرب من مشكلاتنا العاطفية عبر المزيد من العمل المرهق دون توقف.
الرغبة الدائمة في أن يرضى عنّا الآخرون تدفعنا دون وعيٍ لنتخلى عن حياتنا وأحلامنا، فنختار وظيفة يرونها ملائمة وشريك حياة لا يمكن أن يُعوّض في نظرهم، وأسلوب حياة مستوردٍ منهم، وفي النهاية نجد أننا نعيش حياتهم هم لا حياتنا نحن، وكل شيء حولنا بات غريبًا عنّا رغم علاقاتنا الحميمية بتلك الأشياء.
«وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم… وأنا لست بماء!». هكذا وصف تلك الحالة الشاعر أحمد مطر في قصيدة له.
يلازمنا التعب إذن حينما نستسلم ونتخلى عن أحلامنا وطموحاتنا، فنعيش حياة ربما تبدو رائعة لكنها لا تُحقق لنا الإشباع والإفراغ؛ إشباع احتياجاتنا الشخصية وإفراغ حقيقي لمشاعرنا فيما نحب ونرغب.
الخوف وقودًا للاستهلاك!
متى آخر مرّة شعرت بالراحة والاستحقاق بعد إنجاز مهمةٍ كبيرة أو صغيرة؟
يبدو أن الإنسان الحديث يشعر بخوفٍ دائم يمنع عنه الشعور بالراحة، ويدفعه للعدو بأقصى سرعة ممكنة دون توقف ولو للحظة واحدة للإحساس بالإنجاز والنجاح، فالموظف في خوف دائم من أن يُطرد من عمله، وصاحب العمل لا يكف عن الخوف من الإفلاس. هذا الخوف الدائم يضمن بقاء الإنسان في حالة عدم إشباع مستمرة تبقيه في خانة المستهلك الشَرِه، حيث وللأسف في الحياة الحديثة يتم استخدام خوف الناس لدفعهم للبيع أو الشراء، فأصبح الخوف وقودًا للاستهلاك، وليس حالة إنسانية تدفعك للهرب من الخطر أو استشعار الكوارث.
فهل نحن فعلا لا نصل للنجاح أبدًا؟
بالطبع لا! الناس يصلون يوميًا لأحلامهم ويحققون أهدافًا لطالما حلموا بها، ولكن النجاح الباهر، هذا الذي يطلبه الناس في العالم الحديث، حينما يأتي يكون الإنسان عبارة عن حطام عصبيّ اعتاد القلق والخوف لدرجة تمنعه من الارتياح، ولا تسمح له بالتخلي عن ذلك الخوف حينما لا يكون هناك أيّ داعٍ له.
لن يتركنا العالم الحديث دون خوف، فلهذا يجب تعلّم مقاومة المشاعر السلبية التي ينشرها الفكر الحداثي، والتفريق ما بين الخوف الإنساني الذي يشير للخطر ويدفع الناس لتحسين حياتهم، وما بين الخوف المزيف الذي يروج له الباعة لشراء منتجاتهم فحسب. وعبر الوعي تنشأ المقاومة للآثار السلبية التي تصنعها الحياة الحديثة، وحينها ربما ينجو الإنسان من الشقاء المستدام.
أحيانًا ننسى أن نتنفس!
نلهث طوال الوقت في جريان مستمر لا نهائي، من هدف إلى هدف، ومن رغبة إلى رغبة، هذا طابع الحياة في عصر الحداثة؛ ضغط مستمر حيث ينسى الإنسان أن يتنفس بعمق، فيعيش كالغريق لا يصل لرئتيه الهواء الكافي أبدًا. غريقٌ متحفز ومتعصب على الدوام لا يشبع من أي شيء ولا يمكنه أن يتوقف إذا أراد، بل ويحاول النجاة بشكل مستمر عبر إغراق كل من يمد له يد المساعد فلا ينجو من غرقه أبدًا.
ولهذا يصيح في وجهنا جورج أورويل بأسلوبه الاستشراقي المدهش، وفي مقطع بديع اخترت أن يكون استهلالًا لروايتي الأولى، يقول: «أوقفوا اطلاق الرصاص، كُفّوا عن مطاردة هذا أو ذاك! اهدأوا وتنفسوا بعمق حتى تمتلىء رئاتكم سلامًا. لكننا لا نفعل ذلك، بل نصرّ على الاستمرار في غبائنا».
الآن أطلب منك -قارئي العزيز- أن تتنفس بعمق، وأن تبحث بشكل جاد عن نشاطات تجلب الهدوء ليومك الضاري، أفعل كل ما يمكنه أن يوقف جريان الزمن ويلجم تسارعه الشديد، تذكر أن التعايش مع نواقص الحياة وتقبلها كما هي والعمل بهدوء على تحسين أوضاعنا يجعل حياتنا النفسية أكثر استقرارًا، ويحرر عقولنا من القلق والمخاوف، وتحرير العقل من مخاوفه هو تحرير للجسد من التعب الحديث.