جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

نحن.. كما تروي أشياؤنا الصغيرة
5 تشرين الأول
العمارة

نحن.. كما تروي أشياؤنا الصغيرة

5 تشرين الأول

|

العمارة
بدعم من

كوب القهوة الذي تشرب منه كل صباح، ذاك الذي اخترته بعفوية، أو أتاك هدية من أحدٍ تحبّه، قد يكون مرآتك الأصدق؛ فقد يبوح عنك بشكل أوضح مما تقوله عن نفسك، بوعي أو من غير وعي. لكن، السؤال هنا: كيف لكوبٍ بسيط، ربما أبيض خالٍ من العلامات، أن يقول كل هذا؟

في المقال السابق “أدخلني بيتك، أقول لك من أنت”، تحدّثنا عن البيت كمكان نقرأ من خلاله أنفسنا، وركّزنا على الفراغات الداخلية وعناصرها كوسيلة لفهم الذات. أما الآن، فنغوص طبقة أعمق لنصل إلى الأشياء الصغيرة التي تملأ هذه الفراغات، تلك التي نعتقد أحيانًا أنها ثانوية، بينما هي مفاتيح دقيقة لذواتنا.

قطعة أثاث قديمة، أو فازة مشروخة، صور مصفوفة على رف بتأنٍ، ملونة كانت أو بألوان أحادية، كلها تفاصيل تهمس بحكاياتنا، وبصمتنا، وبرغباتنا المخبأة، بل وحتى بجروحنا. ورغم أنها تُصنّف عادة ضمن “الماديات” التي يُنظر لمن يهتم بها بشكل سلبي، إلا أنها في الحقيقة قد تعكس حرصًا عميقًا على تشكيل الواقع كما نتمناه.

يأخذنا دانيال ميلر في كتابه “راحة الأشياء” إلى رحلة ميدانية داخل بيوت متجاورة في حيّ واحد، ليقرأ أهلها من خلال مقتنياتهم. كل فصلٍ في الكتاب يكشف بيتًا، وسيرة كاملة من المشاعر والانتماءات والعلاقات. في هذا المقال، سأختصر بعض الأدوات والمواضيع التي تمكّنك من تتبّع أشيائك أثناء رحلتك في فهم ذاتك والآخرين.

خطك الزمني بين الأشياء

امرأة تحتفظ في خزانتها بملابس من مناسبات ماضية، وتحيط نفسها بمقتنيات من جدتها. قد يكون من السهل تخمين تعلّقها بالماضي وتمييز عاطفتها الحساسة. لكن ميلر يدعونا إلى قراءة أعمق، بربط كل ذلك بمزهرية جوهرية في بيتها ذات ثقوب، والتي تعكس حساسيتها ونفاذية المشاعر لها. إنها امرأة تعيش في الماضي؛ لأنها تفضّل دفء الذكرى على حياد الحاضر وبروده.

في المقابل، زوجان مسنّان يملكان بيتًا خفيفًا وبسيطًا، يسمح لهما بالسفر الذي يعشقانه بسهولة. قلة الأثاث وبساطته تسهل عليهما التنظيم الذي يحتاجان إليه. وفي الوقت نفسه، فيها إشارة إلى عدم التعلّق، والحضور العميق في اللحظة والحاضر. كل تفصيلة بين أشيائك قد تحمل علامة على موقعك في خطك الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل.

خدوش خيباتك وخساراتك

ينتقل بنا ميلر إلى منزل امرأة معطاءة، تبنّت عددًا من الأطفال. تملأ جدرانها صورهم بالتساوي، والتي من خلالها تحاول أن تنصف الجميع بمقدار محبتها لهم. لكن من خلال النظر إلى إحدى الصور، نكتشف واحدة من أكبر خيباتها: آثار تمزيقٍ على صورة، تركها أحد الأبناء المتبنّين كرفضٍ صامت لحنانها ومحاولاتها المستمرة في غمره بالحب.

وأحيانًا، الفراغ في نفسه علامة. البيت الخالي من التفاصيل والباهت من الملامح، لا يعني الحياد دائمًا، بل قد يشير إلى ماضٍ صعب، أو شخصية لم تألف بعد أن تخلق فضاءً يشبهها. تمامًا كجورج، الذي تربّى على يد والدين صعبيّ المراس، مفرطي التحكّم بمسار حياته، حتى فقد بوصلته الداخلية، كما يصفه ميلر.

قيمك المعلّقة على الجدران

ما نعلّقه على جدراننا ليس عشوائيًا. الصور، واللوحات، والشهادات، والتذكارات كلها تعبّر عمّا نعتقد أنه يستحق أن يُرى. إنها إفصاح غير مباشر عمّن نكون، ومن كنا، ومن نأمل أن نكون.

أحد البيوت التي زارها ميلر كانت جدرانه مزدانة بصور لنجاحات أفراد العائلة، وهو ما يشير إلى أهمية السمعة الحسنة بين المجتمع كقيمة عليا لديهم. أما اللوحات التجريدية، فحين نتأمل وضوحها أو غموضها، دقتها أو عشوائيتها، وكثرة ألوانها أو قلتها، فنجد أنها تكشف نظامنا القيمي من خلال مطابقته لطبيعة اللوح. فبوصفنا لتلك التفاصيل، نحن وبشكل غير مباشر نصف أنفسنا.

بعد قراءتي للكتاب، بدأت أُمعن النظر في محيطي من جديد، أختبره بعيون ما قرأته. الصورة المعلّقة على أحد جدراني لقطّة سوداء صغيرة، تشرح الخربشات التي تركتها قططي على الأثاث والستائر. الكتب الموزعة بعفوية هنا وهناك، شغفي بالمفاتيح القديمة الكبيرة. والأهم، وعودة إلى البداية، كوب قهوتي الذي اشتريته دعمًا لصديقة كانت قد بدأت رحلتها في صناعة الفخار.

وماذا عنك؟

هل كوبك أنيق وهادئ؟ مفعم بالألوان؟ أم أنك التقطته من رفّ في متجر ونسيت تفاصيله رغم شربك منه كل صباح؟ أيًّا كانت الإجابة، فذلك ليس مجرّد ذوق عابر. إنها علامة صغيرة، تنتمي إلى سرديّتك الكبرى. فنحن لا نعيش بين الأشياء فقط، بل نعيش من خلالها. وحين نصغي إلى همساتها، قد نكتشف أنفسنا من جديد.

13
0
اشتراك
تنبيه
guest

2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

كيف تُمثلنا ملابسنا
31 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 8 دقائق
نظف عشك من فروخ طائر الواقواق!
17 كانون الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 3 دقائق
عاجل من عقبة حبو
22 أيلول

|

السفر
وقت القراءة: 8 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً