جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

السلطة الحميدة
30 أيار
الأدب والفلسفة

السلطة الحميدة

30 أيار

|

الأدب والفلسفة

السلطة الحميدة 

مُقدمة : 

عندما أقول سلطة ما هو الشعور الذي ينتابك ؟ لا تفكر .. استشعر للحظات هذا المفهوم. 

غالبًا سوف تظهر لك مشاعر سلبية، خوف، ظلم، استعباد وغيرها الكثير من المشاعر الهدامة. هذا ماكان ينتابني أيضًا خلال العشرينات من عمري عندما أرى أي ممارسة سلطوية، سواءً أنا من يمارسها أو تُمارس عليّ. السلطة مفهوم لطالما أثارني بشكل ثوري. أريد أن أوقف السلطة أريد أن أفهم السُلطة وكيف تتشكل ومتى  تُمارس ولماذا. كانت رحلة محاولات فهمي للسلطة طويلة ومتنوعة.

السلطة في مرحلة الطفولة 

 للسلطة تشكلات، ومن أول أشكال السلطة  في حياتي كطفل، كانت ذلك المُعلم في مرحلة الإبتدائي الذي يجعلني أفعل ما لا أريد بقوة النظام، أو أمي عندما تفرض عليّ أكل التمر والحبة السوداء عند كل صباح. أو أستاذ حلقات تحفيظ القرآن في المساء عندما يعاقبني بحرماني من الخروج مع بقية الأطفال كونني لم أحفظ ماهو مقرر عليّ من آيات. الأمثلة لاتنتهي من تصورات السلطة التي كانت دائماً هاجس ومثار غضب في داخلي وصنعت رغبة تمردية لدفعها ومناهضتها كطفل يرى قيمة الحرية في أعلى مصفوفة القيم في حياته. 

الأصلع العبقري 

خلال رحلتي لفهم السلطة كانت هناك محطات كثيرة، أهمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ذلك الأصلع العبقري لابد أنه مر برحلة مُشابهه أدت به لأعمال عظيمة جدًا في تحليل وتفكيك السلطة كمفهوم. أعمال فوكو أعطتني نشوة عارمة كونها فككت مفهوم السلطة، وفي نفس الوقت مُحبطة جدًا كونها تعطيك إدراك حقيقي بحتمية السلطة وأن مفهوم العيش دون سلطة سواءً تُمارسها أو تُمارس عليك في يوم واحد أشبه بالمستحيل.  وهنا كانت نقطة التحول في نظرتي للسلطة.

يقول فوكو : 

ميشيل فوكو (بالفرنسية: Michel Foucault)‏ (1926 – 1984) فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين،

“أن السلطة تنبث في كل خلايا الشبكة الاجتماعية، وتأتي من كل جهة، وتتواجد في مجالات قد لا نعتقد أنها ذات صلة بها، فالسلطة هي « علاقات القوة المتعددة التي تكون محايثة للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى»، إنها العلاقات المتبادلة بين القوى في جميع المستويات: الاقتصاد والسياسة والمعرفة والإيديولوجيا والجنس والعلاقات الخاصة… إنها في استمرار دائم بدون انقطاع، وهي حاضرة في كل مكان: « إلا أن حضورها واستمرارها لا يعني أنها تتمتع بقوة جبارة تمكنها من إخضاع كل شيء، ولكن لأنها تتولد في كل لحظة وعند كل نقطة، أو بالأحرى في علاقة نقطة بأخرى، وإذا كانت السلطة حالة في كل مكان، فليس لأنها تشمل كل شيء، وإنما لأنها تأتي من كل صوب»

فوكو يقصد أن السلطة ليست كما نتخيلها بشكل عمودي من الأعلى للأسفل، ولكنها على شكل أفقي. السلطة عبارة عن سلسلة مترابطة بين الكثير من المؤسسات والأفراد لغاية واحدة. فنحن في السعودية اليوم نسعى لتحقيق رؤية تحولية، هذه الرؤية لن تتحقق من الأعلى للأسفل فحسب، ولكنها افقيه. المؤسسة الصحية، المؤسسة التعليمية، المؤسسة الإقتصادية، المؤسسة الثقافية وغيرها من المؤسسات تعمل بشكل مترابط لتحقيق الغاية. ونفس هذا التعقيد يحدث في كل علاقاتنا ورغباتنا فنحن بالضرورة نريد شيء أو يريد مننا الآخر أن نفعل شيء ما، وتحقيقه يكون بشكل متسلسل لا عمودي. 

كيف ممكن مفهوم فوكو ينطبق علينا كأفراد، وهل السلطة بالضرورة سيئة ؟ 

السلطة : هي القوة أو النفوذ اللي يستخدمها شخص أو مجموعة على الآخر لتحقيق أهداف معينة.

حتمية السلطة 

معلومات مُهمة تختصر الطريق في مفهوم السلطة. 

أولاً : السلطة حتمية، لا يمكن أن يكون هنالك تفاعل اجتماعي في أي نطاق دون تشكل للسلطة.

ثانيًا : السلطة ليست بالضرورة عمل سيء، أو حتى سلبي. 

ثالثًا : السلطة نتيجة وليست غاية. 

كيف تتشكل السلطة

في أي ديناميكية اجتماعية سواءً بشكل ثُنائي أو على شكل جماعات، لابد أن يكون هنالك هدف متفق عليه ضمنيًا لهذا التواجد. عندما تود أن تشتري كوب قهوة صباحًا، تذهب لإحدى المقاهي وعند الوصول يحدث تواصل اجتماعي بينك وبين ساقي القهوة “barista” في هذا التفاعل البسيط المؤقت هنالك غاية وهي أن يأخذ ساقي القهوة المال، وتأخذ أنت كوب القهوة المطلوب في بداية يومك. الغاية مختلفة ولكنها واضحة، وبعد وضوح الغاية يكون هنالك عامل آخر يظهر وهو السلطة. يكون أحد الأطراف مسؤول والآخر مُستفيد. المسؤول هو من تتلبسه السلطة رغمًا عنه، ساقي القهوة الآن مسؤول عن تحضير كوب قهوة يتوائم مع توقعات الطرف الآخر. وهذا هو اتفاق ضمني غير مكتوب ولا منطوق. هنا الطرف المسؤول لديه السلطة بفرض قوانين أيًا كانت لتنفيذ الغاية وهي كوب قهوة رائع، والطرف الآخر لن يجد في ذلك حرج ولا أذية. بالعكس سوف يجد أن مايفرضه ساقي القهوة من أوامر هي شكل من أشكال التفاني في العمل والاحترافية. 

مثال آخر : 

اجازتك على بعد أيام وتبدأ بتجهيز نفسك معنويًا لرحلة طال انتظارها. يأتي اليوم الموعود، أنت في المطار تضع أمتعتك في مسارها الخاص استعدادًا لصعود الطائرة. تصعد الطائرة وتجلس على المقعد المخصص لك. حينها تعلم يقينًا أن هنالك مسؤول في هذا الإطار  يدعى “كابتن الطائرة”، هدفه أن يصل بالطائرة ومن عليها لبر الآمان لتستمتع بإجازتك. كون الكابتن هو المسؤول يعني ذلك أن هنالك سُلطة سوف يُمارسها على الجميع وتبدو مقبولة من الجميع. “ألبس حزام الأمان”، “لا تتحرك من مقعدك الآن”، “تحرك من مقعدك الأن”. يمنع “استخدام الجوال في هذا الوقت”، “مسموح لك استخدام الجوال في هذا الوقت”. وغيرها من الأوامر التي تنفذها دون تردد ولا مقاومة. 

ما الذي كان يحدث في المثالين ؟ 

السلطة الحميدة 

في الأمثلة السابقة كان الهدف أن أوضح شكل من أشكال السلطة التي لا نعي فيها كونها عمل صحي وحميد. والأمثلة من هذا النوع لا تنتهي. السلطة بشكل عام ليست عمل “شرير” ولكن هنالك معادلة تفصل بين السلطة الحميدة والسلطة السامة. وهي كالتالي : 

مهمة + مسؤولية = سلطة حميدة 

مهمة – مسؤولية = سلطة سامة

عندما تكون السلطة غاية بحد ذاتها غالبًا تكون سامة. وعندما تكون السلطة نتيجة لمجموعة من المسؤوليات تُصبح حميدة. اليوم نعيش ردة فعل جمعية تجاه السلطة، بسبب ممارسات اجتماعية طويــلة للسلطة السامة. فتجد أن هنالك الكثير من الرجال الذين مارسوا ويرغبون في ممارسة السلطة لمجرد كونهم رجال دون أدنى تحمل لمسؤوليات الرجل الاجتماعية، وكأن السلطة منصب تتوارثه.وهذا النمط من السلطة السامة شوّه المفهوم العام للسلطة وجعل لدينا ردة فعل حادة “هذا فعل سلطوي” لا تتسلط عليّ” وغيرها من ردات الفعل المباشرة دون فهم عميق لـ ديناميكية العلاقات البشرية وتكوّن المجتمعات. بدلاً من دفع السلطة و شيطنتها، الأحرى أن يتم مسائلة من يمارسها دون مسؤولية وتعريته. وأن نعزز لمن يحمل على عاتقه مسؤوليات ونعاونه على أداء تلك المسؤوليات التي بتحقيقها يكون النفع للجميع. ندعمه بالإصغاء والتعاطف والمساعدة بأن نكون أفراد مسؤولين عن المهام الموكلة إلينا، وهذا هو الإحسان في العمل. 

السلطة عمل إلهي ومهم وحتمي، يكون كذلك عندما يُمارس بمسؤولية وأهداف مشتركة واضحة. في أي موضع اجتماعي تجد فيه السلطة مؤذية تأكد أن هناك من يمارسها دون أدنى مسؤولية. 

أنا أمارس السلطة ككاتب واتمنى أن اكون مارست مسؤوليات الكتابة بشكل مرضي. 

يوم سعيد.

3
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

لماذا نشعر بالملل؟
19 أيلول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 8 دقائق
حاطب ليل
22 تشرين الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق
بكم لو سمحت
21 آذار

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 3 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً