كان روتين عادي: قهوة، سوالف، ضحك. أحدهم يتذمّر من العمل، والآخر من الأسعار، والثالث من العلاقات التي ليس لها طعم، أما الأخير، كالعادة يمدح نفسه لأنّه مهندس، وأنت؟ تسمع، تجامل، وترد .. لا جديد. ومن دون توقعات مُسبقة، يلتفت إليك أحدهم ويسأل بعدما انتهى من مكالمة عمل: ياخي ما تحس إنّنا نعيش حياة ما تشبهنا؟ تهزّ كتفك باستغراب .. وفي اللحظة التي تَهُم فيها بالرد .. يتغيّر الموضوع. لكن لم يتغير بالنسبة لك. انتهى السؤال سريعًا، لكنه بدأ للتو عندك. تحاول العودة للحظة، إلاّ أنّ شيءٌ فيك قد تغيّر. تتساءل بينك وبين نفسك: “إيش قاعد أسوي أنا؟ ليه أشتغل؟ ليه أركض؟ وخلف ماذا بالضبط؟ ولأي هدف؟
وارد جدًّا أن يواجه كل إنسان سؤالًا عابرًا يكفي لتغيير مسار حياته بالكامل؛ من غريب في محطة قطار، من طفل في يوم عيد، أو من مسلسل. سؤالٌ لا يملك إجابة سريعة، لا يُنسى بسهولة، ويتحوّل في داخلك مع مرور الوقت إلى فلسفة حياة. لكن ماذا تعني الفلسفة؟ ومن هو الفيلسوف؟
الفلسفة في جذرها تعني: “فيلوسوفيا” أو “حبّ الحكمة” — أن تسعى للمعرفة لا لتحكم، بل لتفهم. أن تتأمّل لا لتُبهر، بل لتنضج. أن تفكّر لا لأنّك مضّطر، بل لأنك حرّ. ورغم أنّ الكلمة إغريقية الأصل، إلا أنّها ليست حكرًا على فلاسفة الإغريق، ولا على النُخَب، ولا على رهبان المعابد أو كراسي الجامعات؛ بل تسَع بطبيعتها كل إنسان يتوقّف في لحظة، ويسأل بصدق: “لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟” — سواءً في صحراء الجزيرة، أو شوارع أثينا، أو قرى أفريقيا، أو غرف التأمّل في آسيا.
يعتقد الكثير أنّ الفلسفة بصورتها الذهنيّة العامّة: كلام معقّد، ثرثرة طويلة، جدال فارغ، أو ترف غير مهم. لكنّها في الحقيقة أوسع مّما نتصوّر، هي ميلاد الأدب، والعلم، والشخصيّة، بسببها، أصبح الوجود بعظمته محلّ تساؤل. ووقعَت الحقيقة بأنواعها تحت السؤال. هي الشكّ الذي يؤدّي إلى الاتساع، والمعرفة التي تؤدي إلى التواضع، والحُجّة التي تؤدّي الى الفهم. على مستوى الواقع، كل اختراع عظيم سبقه سؤال بسيط: قبل ثورة الذكاء الاصطناعي كان هناك سؤال: هل يمكن للآلة أن تفكر؟، وقبل تطوّر المعرفة، كان هناك سؤال: ممّ يتكوّن العالم؟ كيف يعمل بهذه الطريقة؟ وقبل حدوث التشافي للإنسان كان هناك سؤال: هل أنا بالفعل ضحيّة؟ هل هناك بالفعل أمل؟
بالتالي، لا يوجد في الفلسفة وقتُ للترف بل فقط للمعنى. حتّى الطفل، حين يسأل أمّه ببراءة: ماذا يحدث بعد الموت؟ لماذا يكبر الناس؟ ماذا لو لم نكبر؟ ما لون النجوم؟ — لا يقصد أن يثرثر، بل يحاول أن يفهم، وهذه فلسفة بالفطرة. لذلك، بالإمكان الافتراض أنّ في داخل كل إنسان فيلسوفه الخاص، الذي لا زالت تدهشه الحياة بأسرارها.
وعلى عكس الشائع، الفيلسوف ليس هو من يعقّد الأشياء، بل هو من يتوقّف عندها بصبر طويل، يمرّ على الأشياء كما يمرّ غيره، لكنه يتأمّلها بعينين ليست غريبة بل مختلفة: ظلّ شجرة، دمعة طفل، أو سؤال مُدهش سمعه بالصدفة. يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس: “هذا الانفعال أو العاطفة — يعني بذلك الدهشة — يميز الفيلسوف حقًّا، وليس للفلسفة أصل سواه.” غير أن الفلسفة لا تحيا بالدهشة وحدها، بل تمضي أبعد منها؛ بالألم، توقظ فيك الحذر، وتدفعك إلى مواجهة الأسئلة الصعبة التي تجاهلتها طويلاً في حياتك: هل أعيش خوفًا من الآخرين، أم حبًا في نفسي؟ هل أنا السبب الأهم فيما يحدث لي بالفعل؟ وهل ما أقوم به الآن يستحق أنّ يكون معي في المستقبل؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي تظهر في ساعات الصباح الأولى، وقبل النوم. وحبًّا في الإنسان، تأتي الفلسفة أيضًا كصمّام أمان ضدّ أي محاولة للتكرار. من أن تكون اليوم مجرّد إعادة ليوم الأمس، من أن تفكّر بنفس الفكرة أو تكرّر نفس الخطأ مرتين، تحثّك باستمرار على إعادة النظر فيما يبدو بديهيًا في الحياة، لأنّ ما يبدو بديهيًا قد يُخفي في داخله عمقًا مُهمل. كما يُقال: “نحنُ لا نتفلسف لأنّنا نملك الأجوبة، بل لأنّنا لم نعد قادرين على الاستمرار في العيش كما كنّا.”
الفلسفة أشبه بالسحر ولكنها ليست سحر.
قد تمنحك الفلسفة الكثير: المعنى، والقوّة، والمرونة، والأمل، والإرادة، والشخصيّة، لكنها لا تمنحك حلولاً سحريّة، ولا تعلّمك أن تنتهي من مشكلاتك بسطرين، بدلاً من أن تعطيك سمكة، تعلمك الفلسفة كيف تصطاد. تُعلمك كيف تفكر من منظور مختلف، كيف تنظر بوعي من الأعلى، وكيف تتذكّر نفسك جيدًا بعد أن تفقدها. وأجمل أو أصعب ما فيها، أنّها لا تقدّم إجابات نهائية، بل تدرّبك على احتمال الغموض، على أن تعيش داخل السؤال دون أن تفقد توازنك.
يقول الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون: “الفلسفة مثل صديق يدربك على تسلّق الجبل قبل أن تصل إليه.” وهذا صحيح، هي لا تنتظر سقوطك، بل تسبقك دائمًا بخطوتين، تسألك الأسئلة الصعبة الآن، قبل أن تسألك الحياة نفسها. وهو ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، استطاع بوئثيوس، الفيلسوف والسياسي الروماني المعروف بأحد أهم رجال عصره، أن يكتب “عزاء الفلسفة” — الذي يدور حول محاورات عميقة مع “الفلسفة” السيدة الخيالية التي جاءت إلى زنزانته بهدف انتشاله من عذاباته القاسية ويأسه العميق، وبالرغم من كونه أشهر رجال اللاهوت المسيحي في تلك الحقبة، إلا أنّه حين ضاقت به الحياة، لم يلجأ إلى عقائده طلبًا للقوّة، بل إلى الفلسفة.
أخيرًا، كل ما كان ليس مجرّد فلسفة، هي ليست دعوة لأنّ تتذكّر سقراط، ونيتشه، وكانط، ولا أن تعود الى زمان قديم ليس بزمانك، ولا أن تتمرّد على كل شيء بغضب، بل هي دعوة إلى أن تبني فلسفتك الخاصة، حول العمل، والحبّ، والسعادة، والألم. أن تعيش بقوّة السؤال، ونعمة الفهم، وحبّ الحكمة، أن تبدأ بأن تكون أنت، أن تعود إليك، وأن تمتلئ في الداخل، كي تتوقّف عن السباق قبل أن تُنهَك، وأن تحتمي بالحرّيّة قبل أن تُقاد، وأن تختار بوعي بدلًا من أن يُفرض عليك. والأهمّ، أن تتجرّأ على طرح الأسئلة التي لا يجرؤ غيرك على طرحها، وتتحمّل الإجابة.