لـ خديجة بابكر
إنها لحظات نتمنى أن نحيا في داخلها وألا نغادرها، فنعيش في كنفها عمرًا كاملًا، ولكن متى والحياة تعترف بتلك الأبدية؟ فكيف بمَن يطمح أن تُظلله السعادة إلى الأبد؟
البشر كائنات تستشعر الجمال في أبسط الأشياء، فتجذبهم الأمور التي تسعدهم لدرجةٍ يخشون فيها أن تغادرهم دون سابق إنذار، فيعودون للتخبط باحثين عنها من جديد، وقد تسنح لهم الفرصة لإعادة الكرّة، وقد تفنى أعمارهم في البحث عن السعادة بلا جدوى، من هنا يبدأ التساؤل حول السعادة، وعن مفهومها الذي يصبح عميقًا في إحدى مراحل حياتنا ومتطلبًا مهمًا يصعب البقاء دونه، إنها تتحول إلى احتياج ندرك قيمته التي يضفيها على حياتنا بعد أن نكبر، ويصبح الحصول على السعادة أشبه بالتنقيب عن كنزٍ وسط صحراء قاحلة، لأننا بدأنا نعي قيمة السعادة وأهميتها، وأثرها الذي يصعب إنكاره، فهي تمنح لأي شيء نقوم به معنىً خاص، وتحوله من عادي إلى مهم، لهذا بتنا نحاول أن نحصل على تلك النشوة ونجعلها جزءًا لا يتجزأ من حياتنا.
إن السعادة شعور بسيط يترك أثرًا لا يستهان به على الروح، يملأها حتى تفيض، وينعكس ذلك الأثر على الملامح، فنجد أن للسعادة لغة لا يجيد قراءتها وفهمها إلا مَن عاش في كنف سحرها ونال قدرًا منها، لكن وهجها في بعض الأيام يضعف بالتدريج حتى ينطفئ، ويعم الظلام فتعتم الدنيا من حولنا، وتبدأ رحلة البحث عنها من جديد؛ لأن رحيلها يترك فراغًا في النفس يستدعي البحث عنها رغم أنها لا تُستحدث من العدم، لكنها مختبئة حولنا في أماكن نستطيع أن نصل إليها، فتتمثل في وجود أشخاص نحبهم، وفي الأمان الذي يعنيه بقاؤهم في سلامٍ قربنا، يمكن أن نجد السعادة في القيام بعملٍ نهواه ونتقنه، فنبدع في إخراجه ونسعد بنتائجه، السعادة ليست شعارًا يُهتف به بقدر كونها شعورًا ينبع من داخلنا أولًا، فإن انشغلنا بالبحث عنه بعيداً عن ذواتنا، قد نتوه طوال حياتنا متّبعين سرابًا يستحيل الوصول إليه، ولكن ماذا إن رتَّب القدر لنا لقاءً يجمعنا بالسعادة؟
كيف سنعاملها ونتعامل معها ونحن الذين افتقدنا وجودها وغدا مربكًا يصعب أن نسايره؟
أعتقد أننا سنحتفي بها ونتغاضى عن غيابها؛ لأننا بحاجةٍ إليها أكثر من احتياجها لنا، ونحن الراغبون برفقتها الطويلة، آملين أن يمتد عطائها أبد الدهر، فحريٌ بنا أن نغض الطرف عن ليالي الحزن، والكدر الذي عشنا فيه أثناء قضائها أوقاتًا لطيفةً بصحبة أُناسٍ آخرين، وعلى كل حال ليس لدينا خيار آخر سوى أن نغفر لها ونفتح أبوابنا على مصرعيها.
أحيانًا تتخفى وجوه حزينة خلف أقنعة السعادة، فتزيف مشاعرها وتصطنع مظهرًا يوحي بأنهم سعداء، وذلك في رأيي أعلى مراحل التعايش مع هجر السعادة لدروبنا، قد تبدو طريقةً بائسة لكنها فعالةٌ بعض الأحيان، تمنحنا درعًا يقينا من الذبول والألم، هي خدعة تنطلي على مشاعر الحزن التي تتحين فرصةً مناسبةً لتقيم داخل نفوسنا، مستغلةً الفراغ الذي خلّفه رحيل السعادة، فتفُاجئ بأننا ما زلنا نملك جزءًا يسيرًا نتمسك به من أثر السعادة الحقيقية، حتى وإن كان أثراً زائفًا.
البعض يخاف من اللحظات السعيدة، ويخاف من الأوقات التي يقضيها بعيدًا عن أحزانه التي كانت صديقةً له فترةً لا بأس بها، ربما يرى أن الشعور يفوق طاقة استيعابه، أو ينظر إليه بتشاؤم مَن يستكثر على نفسه البقاء في سعادةٍ دائمة، كلها مجرد احتمالات واردة، فالخوف من السعادة أصله خوفٌ من زوالها وانقضاء المرحلة السعيدة، والعودة من جديد إلى سابق عهده من الترقب والانتظار.
لذا من الأجدر أن نعيش تلك السعادة كما هي بلا توقعاتٍ لطول بقائها أو استمرارها إلى الأبد، ونسمح لها بالعبور متى ما انتهى دورها في حياتنا، ونخلق ما يسعدنا لا أن ننتظر قدومه على طبقٍ من ذهب، ولأننا جديرون بأن نحيا سعداء نتقمص أحيانًا ذلك الدور حتى نتقنه، ويغدو لائقًا بنا نابعًا من أعماقنا، بصدقٍ دون تأثيرٍ من أحد، وهذا ما أسميه سعادة بلا تدخلاتٍ خارجية تضطرنا أن نقدم الامتنان والشكر لمسبباتها، فتقمص السعادة والإيمان بأحقيتنا لها يسهم بشكلٍ كبيرٍ في تدفق الإحساس بالسعادة الكامن بداخلنا، ويعزز فكرة أن السعادة ليست قرار نتخذه ونحيا وفقًا له، بقدر كونها حدسٌ نتبعه ونصدق أنه على مقربةً منا، ليس له ميزان أو مقياسٌ معينٌ يسير عليه، ويظل في حالة صعودٍ وهبوط، المهم أن نجيد التحكم به، وألا نسمح له بأن يشغلنا عن غاياتنا ونسخّر جُل طاقتنا وأوقاتنا للحصول على السعادة فحسب، وكذلك لا يوجد هناك زمنٌ مناسبٌ لتحين أوقاتها، فهي تأتي بلا موعدٍ وبلا استئذان، غير عابئة بحالتنا النفسية أو مقدار حاجتنا إليها، أظن أنها تُفضّل التعامل بمزاجيةٍ مفرطةٍ، فالمعايير التي تدفعها لاختيار الذين تطرق أبوابهم مجهولةٌ بالنسبة لي، لكنني أرى أن لا نتمسك بفكرة ضرورة تواجدها، لا بأس بتجاهلها والمضي قدمًا في طرق الحياة؛ لأن نصيبنا من السعادة محفوظ، ولن يتجاوزنا مهما طال قدومه.