جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

العودة إلى الداخل
20 تشرين الأول
النفس والعاطفة

العودة إلى الداخل

20 تشرين الأول

|

النفس والعاطفة

بينما نشاهد مسرحيةً تُمثَّل أمامنا مُباشرةً، سوف نكون مستعدين في تلك اللحظة لأن نضحك ساخرين، وأن نبقى صامتين في حال تفوّه ممثل ما بكلمات أو جسّد سلوكًا يُزعجنا، قد تتجهّم وجوهنا ونصبح ممتعضين، أو نتعرّق منحرجين، ولكنّنا سنبقى حتمًا في مقاعدنا، لأننا نقبل بأنَّ ما يحدث لن يتجاوز حدود «المسرحية». ولو نهض أحدهم غاضبًا ليقول: «توقّفوا! لا تقل هذه الكلمة! لا تمثّل بهذه الطريقة»، فإننا بالتأكيد سوف ننزعج منه، لأن التصرف الصحيح يقتضي أن تبقى في مقعدك. هذا تمامًا ما يحدث معنا كل يوم عندما لا نُنهي شحناتنا العاطفية، وهي الطريقة التي نختبر من خلالها ظهور ذكريات عاطفية لاواعية إلى سطح اليوم الحاضر، فنبقى نتصرف معها مثل ذلك الشخص الذي نهض من مقعده ليقول: «توقّفوا! لا تقل هذه الكلمة! لا تمثّل بهذه الطريقة»، وهكذا نعامل أحباءنا، أطفالنا، وعائلاتنا مسيرين بلا وعي منّا، ظانين بأن هذه هي هويتنا، وهذا ما نشأنا عليه، وما سوف نكمل عليه حياتنا. نحن نعبث بمسرحية ذاكرتنا كلّ يوم ولا ندعها تعبر.

 

أعيش الآن في المستقبل 

أنا أعيش في المستقبل الآن، فلا مستقبل في الغد، بدأت في الشهور الثلاثة الأولى من هذه السنة بالتخفف من قيود أفكاري التي كانت تنتظر وقتًا مناسبًا للبدء، وبالطبع كان للمسلسل الوثائقي «سحر الترتيب» الذي تقدمه خبيرة الترتيب «ماري كوندو» أثرًا بالغًا في منزلنا، تمامًا عندما تخلّصتُ من (17) صندوقًا من الأشياء التي لم نعد نستخدمها، كان المشهد محلّ انهيار لعائلتي، ولكنّنا لم نتذكر أيّ شيء مهمّا من ذلك، وبدلًا من ذلك جعلتهم يتجولون في الغُرف ليتذكروا شيئًا مهما لن يُستطيعوا إكمال يومهم بدونه، ضللنا نتأمل بعضنا ببلاهة، لم نتذكر شيء لمدة يومين، ولا أعرف لماذا كنتُ أُبقيها في الخزائن متفرجةً عليها. هذا ما تسميه ماري بـ «بهجة الحياة» أن تتخلص تدريجيّا من التخزين، وتُبقي كل ماتودّ أخذه إلى المستقبل، فيمنحك طاقة بحَسَب فئة الأغراض لا بموقعها في المنزل. تبدأ مع الملابس، ثم الصناديق، والأوراق، وأكبر فئة «الكومنو» كالمطبخ والمرأب والحمام، وأخيرًا الأغراض العاطفية. وتشدّد على أهميّة كونها عملية ترتيب وليست تنظيف، ويجب أن تفعلها أنت ومن يعيش في المنزل، لا الإستعانة بشخص من خارج المنزل، حتّى يتسنى لك الانعتاق من المَاضي وفوضى الأفكار والاحتياجات، وتُراقب حياتك وأنت تمنحها فُسحة خاليةً من تكديس العواطف والذكريات. بدأتْ العملية بهدف الترتيب، وانتهتْ بغرفة خالية من كل شيء عدا من سرير النّوم وخزانة الملابس، وامتنان عظيم لكل هذه البرودة المُنعشة عند أولى لحظات الاستلقاء.

 

عملية الحضور

أثناء الترتيب الذي لايزال متواصلًا حتى اليوم، عُدت إلى كتاب «عملية الحضور» بعد أن قرأت مقدمته وركنته في المكتبة لما يقارب السنة، نفضتُ الغبار وعزمتُ قراءته بدافع الفُضول،  ولأن هذا الوقت هو الأنسب دائمًا، فلا أعرف كيف كان بإمكان المؤلف احتضان جميع جوانب الحياة والعلاقات والسلام والأصالة في كتاب واحد، حيث يدعو إلى إعادة الاتصال بعائلتنا وأطفالنا وطفولتنا، وجميع علاقاتنا بشكل جديد تمَامًا، يمكنني القول أنه أشبه بخارطة ذو وُجهة جوهرية نحو جميع اتجاهات حياتنا، وإيقاظ الكينونة التي هجرناها منذ وقت طويل، وأن نمنحها هبة الحضور وإدراك اللحظة الحالية، في أبهى صور المسامحة والغُفران مع حالات انزعاجنا، بالإضافة إلى طريقة استقبالنا للآلام والصدمات والفَقد.

 

يرافقك الكتاب في (460) صفحة وهو يردد عمّاهيّة الإبصار نحو الدّاخل، وكيف تحوّل شحنتك العاطفية إلى وقود يدفعُك للأمام، وأن تتخلّص من غرور النقد والمقارنة حتى بداخل نفسك لتشعر على نحو جيّد من التفوّق، وأن تستيقظ كل تلك الذكريات اللاواعية في سرداب الذّاكرة عبر تمارين تنفّس مطوّلة خلال عشرة أسابيع، لتتعاطف معها وتقبلها دون شروط، وتدعها تمضي بعيدًا عنك، فأنت لست بحاجة إلى مداواتها وإصلاحها، كُفّ عن دور الشخص الذي ينهض في المسرحية، ودعها تمضي، وذلك بالضبط ما يُسمى بالاستجابة.

 

ذكرى أم مجرّد هلع

 تذكرتُ جليًا مشهدًا من مسلسل الدراما الواقعية (MAID) للبطلة أليكس عندما كانت تعمل في خدمات تنظيف المنازل، واضطرت للذهاب إلى تنظيف منزل لصّ مُراهق سطا على (50) منزلًا قبل أن يلوذ بالفرار، وقد أصبح معروضًا للبيع بعد أن تُوفيت والدته التي كانت تقطُن في المنزل. أثناء التنظيف وجدتْ في عليّة المنزل ممرًا ضيقا أشبه بحجرة صغيرة جدّا وباب يتوجّب الإنحناء إليه، اتضح لاحقًا بأن والدة اللص كانت تحبسه أثناء طفولته، وبينما قررت أليكس الولوج للمر واستكشاف ظُلمته عبر ولاعة، أُغلق باب الممر عن طريق الخطأ وضلت عالقة لبضع ثوان ظنّت بأنها ساعات في الظّلمة التي تشبه القبر، أصابتها نوبة هلع شديدة بينما ساعدتها زميلتها على فتح الباب، لم تستطع الحِراك وتوقفت عن التنظيف. ثم تذكرت لاحقًا أثناء العودة إلى منزلها بأنها تذكرت طيفًا من طفولتها عندما كانت محبوسة في الداخل، لم تستطع التحقّق جيدًا ما إذا كانت ذكرى أم مجرّد هلع. لاحقًا، عادتْ للمنزل المعروض للبيع من أجل إكمال أعمال التنظيف، وظلتْ تتأمل في الممر، ثم انحنت ودخلتْ بهدوء وأغلقت الباب على نفسها في الظّلمة! لم يكن دافعها الفضول واستكشاف قصّة هذا المنزل، بل الرجوع إلى داخل ذاكرتها، بعد مُضي لحظات، كانت متأكدة بأن هذه الظلمة تشبه مشهد حدث أثناء طفولتها، عندما كانت تختبئ تحت مجلى المطبخ أثناء شجار والديها، خرجتْ من المَمر المُؤدي للسقف وهي متأكدة بأن هذه الذكرى لم تكن مجرّد خيالات، وأنها موجودة في ذاكرتها اللاوعية، وهذا يُفسر سعيها الدؤوب والمؤلم نحو توفير حياة ملائمة لابنتها مادي، قرّرت حينها المضيّ قدمًا في قرارات مصيرية مثل الإنفصال من والد ابنتها، والبَحث عن والدتها لاحتضانه.

 

مشهد العليّة الذي مرّت به أليكس شبيه جدًا بما يسمى «عملية الحضور»، والخبر السارّ أنك لست مضطرًا للجلوس في عليّة منزل أحد اللّصوص حتى تتذكر أحلك ذكرياتك، وليس من الضروري أن تكون طفولتك مؤلمة، أو اختبرت موقفًا صعبا في إحدى فترات حياتك، بل حتّى تمنح نفسك السلام والهدوء والبَصيرة والعطاء اللامحدود نحو ذاتك أولًا، ثم للآخرين من حولك، مهما بدت لك حياتك وكأنّها تتسم بالشقاء، والرّكض، والعمل، والأمومة، وقلّة المال، واللّوم، والألم. فإنها تستحق هذه الهبَة القيّمة من التعاطف والاستجابة. لقد قلتُ حقّا بأني امتلكت هذه الجوهرة وهي من أندر ما قد أشعر به على الإطلاق، أن أقبل مرور الأيام الرتيبة والسعيدة على نحوٍ واحد، بقلبٍ يتّسع لكل هذه المشَاعر الساحرة والعاتية.

 

 لا يُمكنني حصر الأفكار التي دارت في رأسي، ولا عدد المرّات التي قمت بتقليب صفحات كتاب «عملية الحضور» والعودة إلى الفصول الأولى، ولا مرّات الضحك الساخر الممتزج بالدموع، ولا الإستلقاء لما يقارب ساعة كلّما قرأت فصلًا والتأمل نحو السّقف.

 
26
0
اشتراك
تنبيه
guest

2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

لماذا لا نفهم الحب؟
16 نيسان

|

العلاقات
وقت القراءة: 7 دقائق
إدمان‎ ‎الاقتباسات
23 كانون الثاني

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 7 دقائق
هوسنا بالمال
7 آذار

|

المال والأعمال
وقت القراءة: 4 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً