لـ محمد الأحمدي
تتحدث عن موضوع من صميم قلبك، تنفعل وصوتك يرتفع لا إراديًا، نبرتك ترتعش وتحتد، والعلامات التي تشكلّها بذراعك ويدك لتشرح ما تقول فوضوية ولا معنى لها بتاتًا، وقد يتطاير اللعاب من فمك ليصيب كل ما هو حولك. وسواءً كان السبب شغفك بالموضوع الذي تتحدث عنه أو حماسك لرواية قصة جيدة، لا يهم السبب المهم أنك متحفز جدًا حد أنك لا تبالي بمحيطك، بل للحظة نسيت صديقك الجالس أمامك. صديقك الذي ما إن أنهيت حديثك الملحمي حتى رد دون تفويت ثانية:
“ايوه ايوه صح، تدري كلامك ذكرني بشيء..”
ثم انطلق يتحدث عن أمرٍ آخر لا علاقة له بما قلت بتاتًا. فيفقأ بالون التحفز العظيم وتهبط هبوطًا اضطراريًا عنيفًا إلى الأرض محبطًا بإدراكك أن الشخص الجالس أمامك لم يسمع كلمة مما قلت.
هل مريت بهذا الموقف؟
غالبًا جوابك نعم، بل أنت عشت في الجانبين، جانب الذي لم يُسمَع والذي لم يستمع؛ لهذا أريد أن أحدثك عما استفدته من صديقي زيد، المستمع العظيم.
الساعة الثانية ليلًا. حلقي جاف ويؤلمني كأنه ملتهب. صوتي بح كأني عائد من حضور مباراة. خرجت رفقة صديقي من الصباح الباكر ليتسنى لنا أن “نرجع بدري” بما أن كلانا دجاج -أي ننام مبكرًا- وبعد أكثر من اثنتا عشرة ساعة من الهروج، ما زال منسوب بحر السوالف مرتفع، بل ارتفع عن الصباح فالمواضيع التي تُفتح لما يحين وقت الرحيل هي الألذ.
صديقي هذا، بلا مبالغة، هو أفضل مستمع قابلته في حياتي. وطريقة استماعه ما زالت تذهلني، سواءً بتركك تسهب بينما يلزم الصمت التام إلا من كلمةٍ هنا وجملة قصيرة هناك تطمئنك أنه معك، أو بتوقعاته الصحيحة عما ستقول تاليًا، أو تدخله في اللحظة المناسبة بالضبط لينقذ وتيرة المواضيع بأخذها إلى منحىً جديد.
يمكن أن تظنني أبالغ إلا لو كنتَ تعرف شخص مثل زيد، فالمستمعون الجيدون ما زالوا مهددين بالانقراض ولم ينقرضوا كليًا، فالمحظوظين منّا مرت بهم هذه المخلوقات الملائكية النادرة.
كن مثارًا أيضًا، لا مثيرًا فقط
أن تكون مثارًا يعني أن تهتم بما يدور من حولك، وأعرف أن الاهتمام ببعض الأشياء -التقنية أو التافهة مثلًا- أقرب إلى المستحيل. لكني أدعي أن هذا، في معظم الحالات، نتيجة للإنصات السيء وليس سبب من أسبابه.
كيف؟
غالبًا عندما لا نستمع لأحد فنحن إما نملك حكمًا جاهزًا قبل أن ينتهي، أو نجهز ردودنا على ما يقول، أو ننتظر منه الكلمة التي تؤكد رأينا حتى نرميها في وجهه صارخين “هاه شفت!” دون التفكير حتى بسياقها في الجملة أو التشكيك في حكمنا الأساسي.
والمصيبة الأكبر خصوصًا مع أصدقائنا المقربين وأفراد عائلتنا هي حينما نظن أننا عرفنا كل شيءٍ عنهم، فيغرق كل جديدٍ لديهم في بحر فكرتنا عنهم الذي نهلناه في مخيلتنا من فكرتنا المسبقة عنهم، فتنطفئ شعلة فضولنا بسبب حكمٍ خاطئ.
تعلّمت من زيد أن الاستماع مهارة، يمكن تعلّمها بالقراءة عنها وبملاحظة المستمعين الجيدين ومحاكاتهم. أيضًا تعلمت منه بعض الإشارات الصغيرة التي يعتمد عليها ليبقي المحادثة متقدة، وسأشاركها معك في الفقرات التالية.
ألو هل تسمعني؟
من المفارقات المضحكة أن مهارات صديقي في الاستماع تتدهور بحدة إن كان يسوق السيارة. رغم أنه لا يرَ بإذنه ولا يستعملها على دواسة البنزين أو الفرامل.
لكن مفردة سماع نفسها تعني الإدراك بالإذن، والإدراك لا يمكن أن يحدث دون انتباه. فيجب اجتماع جميع الحواس وتجنب كل الملهيات لنتمكن من الإنصات، بل يجب أن تكون حاضرًا حضورًا كليًا ولا تفكّر بشيء آخر عدا كلمات المتحدث، وكأن سر الحياة سيخرج من بين شفتيه في أي لحظة.
طبعًا، الكلام أسهل من الفعل والأمر يتطلب ضبطًا كبيرًا للذات وممارسة واعية مستمرةً، ولكنه ممكن جدًا.
*ملاحظة: مثال صديقي كان مجرد استشهاد وليس عذرًا كي لا تخرج أصدقائك بسيارتك.
استوقف، لا تقاطع
الصراحة أن هذه الحركة تزعجني أحيانًا، لكنّي أفهمها.
صديقي لا يفوت جملةً واحدةً لا يفهمها دون السؤال عنها، وفي نفس الوقت لا يقاطع أحدًا ليتحدث عن نفسه أو يغير دفة الحديث. فكل استيقافاته هي ليفهم أكثر، ويصغي بشكلٍ أفضل.
صحيح أن إيقاف الشخص عن الكلام قد يقطع حبل أفكاره، ولكن السرَحان وتركه يحدّث نفسه خيارٌ أسوأ بكثير، بالإضافة إلى أن تركيزك معه سيعني على الأغلب قدرتك على إعادة دفة الحديث للوجهة المطلوبة.
لذا أوقف لتفهم دائمًا، فالاستيقاف لا يعني المقاطعة.
الأسئلة المفتوحة كنز لا يفنى
السر يكمن في السبب لا الجواب.
الأسئلة المملة تلد أجوبة مملة، أين سافرت؟ ما وظيفتك؟ ماذا تشجع؟ من أفضل لاعب عالمي انتقل للدوري السعودي مؤخرًا؟
كل هذه الأسئلة تحاصر المتحدث وتلوي ذراعه على الإجابة بأجوبةٍ معلبة جاهزة، بينما لو سألته لماذا اختار السفر لدولة ما، ولمَ لم يذهب إلى الدولة المجاورة التي تعتبر أرخص، أو لمَ اختار وظيفةً مختلفةً عن تخصصه، هنا لن يخيب ظنك أغلب الناس.
ولصديقي عادة مشاكسة تعجبني. فهو متقنٌ لدور “محامي الشيطان” فيتعمد سؤالك وتوجيهك بأسئلة مفتوحة تمتحن آرائك واعتقاداتك، وبفضل هذه العادة تمكنت من صياغة كثير من قناعاتي بطريقةٍ أفضل.
خذ وقتك قبل أن تجاوب
كم مرة رديت ثم تمنيت لو تستطيع حذف كل ما خرج من فمك في الدقيقتين السابقتين؟
نعتقد أحيانًا أن المحادثة حوارٌ في فيلم، لو لم نرد فورًا سيظهر من العدم مخرج ويصرخ “كت!” وتخرَب المحادثة ويضحك علينا الناس وينهار العالم.
لكن بكل بساطة بعض الكلام يحتاج تفكير ليُصاغ، وهذه ميزة من ميزات الكلام المكتوب على الكلام الشفوي فهو مسبوقٌ بتفكيرٍ وإعادة صياغة، أما بالنسبة للكلام الشفوي فالتفكير يحدث بينما نتحدث، وهذا أحد أسباب جيبتنا للعيد!
لا تخشَ تغيير الموضوع
الإصغاء لا يعني أن تبكي مللًا أو تجبر نفسك على الاستماع والاستمتاع بكل المواضيع في العالم، لكن كيف تغيّر الموضوع؟
مرجحٌ أن بينك وبين المتحدث نقطة التقاء ليست بعيدةً عن الموضوع الذي يتحدث عنه، وبسؤالٍ بسيط عن موضوع متعلق بالموضوع الأساسي تستطيع توجيه المحادثة إلى نقطةٍ مشتركة بينكما.
مثل أن تسأل مولعًا بالفيزياء عن أوبنهايمر، أو تسألين مهووسة بالإنتاجية عن طريقة تجاوزها الكسل والرغبة بعدم فعل أي شيء.
هذه الطريقة عظيمة لعدة أسباب، فهي لا تجرف المحادثة عن مجراها الطبيعي تعسفًا، بل تنتقل بسلاسة وطبيعية بين المواضيع، وهي طريقة ناجعة لإيجاد النقاط المشتركة، وفي أسوأ الأحوال هي تنقذك مما لست مهتمًا به بإخراج المحادثة إلى أماكن عامةً أكثر.
الساكت الناطق
لمّا كنا في المرحلة الثانوية، تجمّعنا في استراحة نهاية الأسبوع. دار نقاشٌ حامٍ حول مواضيع لا صلة بينها ظاهريًا، بدأنا بالجدال حول النادي المستحق للقب كبير جدة، ثم انتقلنا للحديث عن كره أحدنا للأغاني العربية، ووصلنا إلى جدال حول حقيقية المصارعة وتمثيلها، حتى أنهينا جدالنا بالهاجس الأكبر لكل طلاب الثانوية في كل زمان: التخصصات الجامعية ومستقبلها في سوق العمل.
تحدثنا عن كل المواضيع التي تهمنا، بانتقالاتٍ رشيقةٍ سلسة وبحماسة جعلت كل المجموعة تشارك. لم يكن هناك أي رابط بين تلك المواضيع إلا أسئلة زيد الذي كان بذهنٍ نشط وتخفٍ كنينجا يحدد متى تخفت حماسة المجموعة ويقترب تخييم السكوت على المكان، فيحول الموضوع بسؤال شخصٍ كان مشاركًا فعالًا في الجلسة وإن لم يتحدث كثيرًا.
بعد ملاحظتي لصديقي صرت مستمعًا أفضل، وأصبحت أجد لذةً عجيبةً في الاستماع، ورأيت أن من أمامي على الأغلب يملك ما يقوله، لكنه يحتاج شخصًا منتبهًا يدرك بإذنه كيف يساعده على استخراجه.