أيها الإنسان الجريء الذي يمنح عقله ليتردد بين طريقين متعارضين، فلا تجد صعوبةً في أن تتكهن وتشك في صحة كل منهما. قد تجد نفسك مقتنعًا تمامًا بأحد الاتجاهين، ولكن في يوم من الأيام سيأتيك شيء جديد يروق لعقلك أكثر بكثير، هنا، من الطبيعي أن يعود الشك ليتسلل إلى قلبك بالنسبة لفكرتك السابقة، فتتراجع عنها لتؤمن بالجديد الذي اقتحم حياتك.
ولكن، إذا أصررت على التمسك بفكرتك السابقة دون أن تخضعها للشك الكافي والتحليل، على الرغم من الاعتراف الخفي في ضميرك بأنها قد تكون أقل صوابًا من الفكرة الجديدة، فإنك تتهرب من الاعتراف بالحقيقة.
بالفعل، لا يمكننا إنكار أن الشك هو جزء لا يتجزأ من عملية التطور. فالإنسان الذي لا يشك لن يحقق تقدمًا حقيقيًا. إنه الشك الذي يضمن استمرارية البشرية على قيد الحياة. فإذا كنا واثقين تمامًا من كل شيء، فلن نقوم بتغيير أي شيء أبدًا. إن الانتقال من حالة يقين تام إلى حالة يقين تام دون أن نمر بمرحلة الشك يعد أمرًا مستحيلًا. ومن الغباء والإهمال العقلي ألا نشك أبدًا. فما هو فائدة العقل إذا كنت لا تشك؟ كيف يمكن لنا أن نفكر في شيء ونحلله إذا لم نشك في صحته؟ ما هو النشاط الذي قد يمارسه عقلك بعد ذلك، إذا كنت واثقًا تمامًا من كل أفكارك؟
دع الشك يتسلل إلى عقلك وقلبك، فهو منارة تضيء طريق الاكتشاف والتطوير. استمر في تحدي الأفكار واستكشاف المعرفة الجديدة، ففي ذلك تكمن حقيقة التطور والتقدم الحقيقي.
غالبًا ينشأ الشك الذي يثير التساؤلات عندما يكون هناك خيارات متعددة ومتنوعة، تولد لدينا أفكار متضاربة ومتنافرة، تبتعد أحيانًا وتتداخل أحيانًا، ولكل فكرة أساسها وحجتها التي تدعمها في مقابلة الأفكار الأخرى. في هذا الوقت، نحتاج إلى بذل جهود كبيرة لفهم الأمور وتقييم الخيارات المتاحة.
يصبح علينا أن ننظر بعمق في طبيعة تلك الخيارات المختلفة، ونحاول التأكد من صحة أفكارنا وقناعاتنا الموروثة، والتي قد تمتد تأثيراتها لتشمل ذوقنا الجمالي واتجاهنا الأخلاقي. لذلك يتطلب منا أن نكون منطقيين ونعتمد على التحليل والتفكير النقدي لفصل الحقائق عن الاعتقادات المجردة والتحيزات الشخصية.
في هذه العملية، يمكن أن يعمل الشك كدافع قوي لاستكشاف المزيد والبحث عن المعرفة. يجب أن نكون مستعدين لتحمل عبء الشك والتعامل معه بصبر وتسامح، حيث إنه من خلال المواجهة الجريئة للشك والتحديات المعرفة القائمة يمكن أن نحقق التطور والنمو الشخصي. بذلك، نصبح قادرين على اتخاذ قرارات أفضل وتحقيق رؤى أعمق وأكثر توازنًا في حياتنا.
أهمية الشك في تطوير أفكارنا وتعزيز قناعاتنا
يساهم الشك على تحفيز التفكير النقدي والتحليلي وتعزيز الاستقلالية الفكرية فعندما نشك في الافكار والقناعات، نتحرر من القيود والتقاليد المفروضة علينا ونفكر خارج الصندوق مما يجعلنا أكثر قدرة على استكشاف آراء ومفاهيم جديدة وأفكار غير تقليدية.
كما ويعمل الشك على تحسين اتخاذ القرارات الصائبة وذلك عندما نشك بشأن فكرة معينة فإننا نصبح أكثر حذرًا ونميل الى إعادة تقييم الامور بشكل أفضل. مما قد يعزز لدينا أيضًا السعي إلى المعرفة والقدرة على تحليل ورؤية الأمور من منظور أكثر شمولية ودقة.
الشك والأحكام الأخلاقية
من الجدير بالذكر أن الشك بالمعنى الاخلاقي يرتبط بالعقل ذلك أننا نستبعد من مجال الاخلاق كل ما يصدر عن الإنسان بغير وعي منه أو بغير إرادة من جانبه. فالمسؤولية الاخلاقية تنتفي تمامًا من جميع ألوان السلوك التي تخرج عن إطار الشعور والارادة.
بيد أن هذا لا يعني أننا لا نصدر أحكامًا أخلاقية على التصرفات التي تصدر عن الشخص وهو في حالة فقدان الشعور أو فقدان الإرادة، بل يعني أننا نكتفي في مثل تلك الحالات بالحكم على السلوك كموضوع وأداء ونتوقف في نفس الوقت عن إصدار احكام اخلاقية على صاحب السلوك باستثناء ما يكون في مقدوره فعله أو توفير التدابير اللازمة قبل الاتيان بالسلوك وقبل الانخراط في حالة اللاشعور أو حالة فقدان الارادة.
فالشخص المصاب بالتجوال النومي لا يكون مسؤولًا عن تصرفاته التي يأتي بها في أثناء تجواله، ولكن يمكن أن نحمّله مسؤولية اخلاقية سابقة لانخراطه في مثل ذلك التجوال. فاذا قام المصاب بهذا المرض بتناول سكين وطعن بها شخص ما، فإننا لا نحمله مسؤولية الفعل في أثناء تجواله النومي بل نحمله مسؤولية أخلاقية اخرى سابقة على تلبسه بالحالة. فلقد كان من الواجب عليه أن يستبعد جميع ما يمكن أن يعرضه أو يعرض غيره للخطر قبل توجهه إلى السرير.
ولعلنا لاحظنا من المثال السابق أننا نتناول ألوان السلوك الاخلاقي بالعقل والموازنة الذهنية بحيث لا نعطي حكمنا للشخص أو ضده إلا بعد أن نتفحص حالته ونقف على جميع الظروف المحيطة به.
وهذا يعني أننا أخذنا في توجيه الشك إلى مبدأ الارتكان إلى قاعدة مطلقة مهما كانت. وإذا ما قمنا بتحليل حالة القاتل والوقوف عندها للتساؤل فلقد نجد القاتل مجنونًا أو متخلفًا أو شخصًا وقع تحت تأثير منوم أو حالة مرضية ما مثل الحالة السابقة أو غير ذلك من الظروف التي تجعلنا نزلزل القاعدة العامة التي تقول «القاتل مذنب ومن ثم يستحق القتل» فالزلزال الذي أحدثناه أصبنا به كبد التعميم والمطلق والشمولي في القاعدة الاخلاقية لجميع الحالات في جميع الأماكن والأزمان.
وبتعبير آخر فإن النسبية قد حلت محل المطلق، ولم تعد القاعدة العامة التي نضع تحتها جميع الناس، بل صرنا ننزل من العموم إلى الخصوص، ومن الحكم العام إلى الحكم الخاص، ومن التصور المجرد إلى الواقع الحسي والظروف والملابسات التي ترتبط بالواقع الحي.
ومن الشكوك التي يمكن أن توجه إلى الأحكام الأخلاقية العامة ذلك المجال النسبي الواسع في القيم الاخلاقية التي تجعل ما هو خير في أحد المجتمعات شراً في مجتمع آخر. فتعدد الزوجات في أحد المجتمعات دليل على مدى ما يتمتع به الرجل من قدرة جنسية، بينما يعتبر في مجتمع آخر مؤشراً إلى تخلف الرجل عن ركب الحضارة، وكثرة الانجاب في مجتمع ما تعد مفخرة للمرأة بينما تعد مؤشراً للتأخر ونقص الوعي في مجتمع آخر.
وفي مقابل الشك في جميع القيم الاخلاقية من حيث قدرتها على الثبات والتعميم، فإن هناك من يؤكدون أن هناك فرقًا جوهريًا بين المبدأ الأخلاقي وبين القاعدة الأخلاقية، فالقواعد الأخلاقية نسبية، ولكن المبادئ الاخلاقية مطلقة ولا يخالطها أي نوع من الشك في عموميتها.
فالمبدأ الاخلاقي كأن تقول «كن فردًا مفيدًا في مجتمعك» أو أن تقول «انصف المظلوم إذا كان دفع الظلم في مقدورك» إلى غير ذلك من مبادئ أخلاقية تشكل دائرة أوسع من القواعد الأخلاقية التي يمكن إضفاء الشك عليها.
الشك والأحكام الذوقية والجمالية
قد يمتد الشك إلى مجال عقلي آخر وهو المجال الذوقي. فأنت عندما تستمع إلى قطعة موسيقية أو عندما تشاهد عملًا فنيًا تشكيليًا، فإنك تمر في مرحلة شكيّة قبل أن تصل إلى قرار وقبل أن يصدر حكمك بجمال أو قبح ما تستمع إليه أو ما يقع عليه بصرك.
إن أشد الموضوعات وقعًا واستحسانًا على النفس لابد وأن يسودها بعض الشك قبل اصدار الحكم عليها بأنها جميلة وأكثر من هذا فإن ما نحكم عليه بأنه جميل في وقت ما قد نبدأ في الشك في جماله في وقت أو عمر آخر.
فكثير من الموضوعات والأنغام والأشكال التي كنا نستحسنها ونحكم لها بالجمال في طفولتنا أو مراهقتنا صرنا نستقبحها أو لا نرى فيها نفس القدر من الجمال والذوق الذي كنا نجده فيها في تلك المرحلة العمرية.
وطبيعي أننا نمر في مرحلة شكيّة حيث نشك في أحكامنا السابقة متهمين أنفسنا بأننا كنا مخطئين فيما سبق لنا اصداره ولا ننسى أن تأثرنا بالبيئة والثقافة وانغماسنا بالعديد من التجارب يغير من نظرتنا للأشياء من حولنا مما يؤثر على ذوقنا الجمالي.
وفي جميع الحالات فأن الشخص يمر في مرحلة بينية يكون خلالها في حالة شك فيما سبق من أحكام جمالية إلى أن ينتهي به المطاف إلى تغيير ذوقه وإحلال ما هو أكثر توافقًا مع فكره وشخصيته واهتمامه الجديد.
في النهاية، يمكننا أن نقول إن الشك هو رافدٌ حيويٌ للتجديد والتحسين في القيم الجمالية والأخلاقية. فعندما نشك في قيمة جمالية معينة أو مفهوم أخلاقي، فإننا نفتح أبواب الاستكشاف والتحليل العميق.
ونستكشف مجموعة متنوعة من الآراء والتجارب، ونقارن بين القيم المختلفة ونقيمها بناءً على أسس متينة. لذلك نستطيع أن نقول بأن الشك قد يساعدنا بالفعل على إحلال القيم الجمالية والأخلاقية الأفضل محل تلك التي قد تكون أقل قيمة أو فعالية. ولكن يجب أن نتذكر أن الشك بحد ذاته ليس الهدف النهائي، بل هو وسيلة للوصول إلى تفكيرنا النقدي وتحقيق تطورنا الفكري والروحي. إذا تمكنا من توجيه الشك بشكل بنّاء ومنظم، فإننا سنصل إلى رؤى جديدة وفهم أعمق للقيم والأخلاق التي تحكم حياتنا.