منذ صغرك وأنت تلقن خطة حياتك، ما إن تبلغ الخامسة حتى يبدؤوا بتهيئتك لأول مرحلة من تلك الخطة المحكمة التي ستمر بها أنتَ وكل من ولد من قبلك ومن بعدك، روضة ابتدائية فمتوسطة فثانوية، ثم تعطى تمهيدًا لا تعيه بأول قرار مصيري تتخذه في حياتك: تخصصك الجامعي، التخصص الذي ستُعرِف نفسك من خلاله حتى وإن لم يكن يشبهك وأثناء سنوات دراستك ستُرسم في مخيلتك الخطة المثالية لحياتك وما إن تُنهي تلك المرحلة بذكرياتها الحلوة والمرة حتى تقف أمام الصفحة الفارغة لا مسارات بعد الآن لا خطط لا إرشادات لا شيء! مرحبًا بك في العالم غير الممهد له أو ما يسميه البعض «مرحلة ما بعد التخرج».
فتجد نفسك تُركت بين آلاف الصفحات العلمية مغيّبًا عن الواقع، تعلمتَ مهارات الحساب، مهارات التفكير، مهارة الكتابة والقراءة…والعديد من المهارات الذهنية مقابل محصلة مهارات حياتية ضئيلة، بعد أن تتخرج ويملئ الفراغ أيامك ستصبح أكثر إدراكًا للعالم من حولك، أكثر تركيزًا على نفسك، ستختبر مشاعر جديدة وتحاول فهمها، ستخفق تارة وتنجح تارة أخرى تقسى على نفسك تارة وتلين تارة، تكثرُ تساؤلاتك حول ما إذا كانت خياراتك السابقة صحيحة ويقل تواصلك بأصدقائك فبعد أن كنتم تسيرون على نفس الطريق وتواجهون نفس الصعوبات أصبح لكل منكم طريقه الخاص بصعوباته المختلفة، سيصبح مرور الأيام والتقدم في العمر أكثر رعبًا، وتتلاشى كل تلك الخطط المثالية لحياتك بعد أن تدرك أن الواقع مختلف تمامًا عما ظننت.
رغم أن الخيارات من حولك هائلة لكن قد تبدو هذه الحرية في اختيار طريقتك في عيش الحياة مقلقة، تلك الحرية المفرطة التي ستنالها بعد الكثير من الإرشادات التي كانت تقودك ستبدو نقمةً أكثر من كونها نعمة.
وحقيقة الأمر أن تلك الحرية ماهي إلا وهم، نعم أنت تملك خيارات عديدة متاحة لك لكنك عاجز عن اختيار أحدها، لا زلت تحت سيطرة آراء مجتمعك، توقعات أفراد عائلتك، ونفسك اللوامة التي تضعك في مقارنة عقيمة مع من حولك، تبدأ التشكيك في كل قرار ستتخذه وتشعر بعدم الاستقرار لأنك اعتدت وجود من يخبرك بمهامك ويرسم لك طريقك.
خلال بحثي عما قد يجمع تلك المشاعر العديدة تحت عنوان واحد، وجدت ما يدعى ب «أزمة مقتبل العمر» وهي الفترة الانتقالية التي تتغير فيها أدوارنا وتختلف اهتماماتنا وتزداد فيها مسؤوليتنا، فنصبح عالقين في منتصف الشعور بعدم اليقين ونتيجة لذلك الاستجواب الذي نضع أنفسنا تحته عند كل خطوة ننوي اتخاذها يتباطأ معدل تقدمنا في حياتنا، فنُصاب بالإحباط وتلتبس لدينا معاني النجاح وأسباب السعادة هل هي في تكوين عائلة أم بدء مشروع مستقل أم العمل في نفس مجالنا مع أرقى الشركات وأفضل الأسماء؟
كل تلك التساؤلات هي لطرق محتملة وخطط غير مضمونة ومسارات لا يُعرف نهايتها، قد يميل قلبك للمسار الممجد من قبل أفراد مجتمعك حتى وإن شعرت أنه ليس المسار المناسب لك طمعًا في إثارة الاعجاب أو نيل المديح أو جني الكثير من المال فتظل حبيسًا لذلك الخيار الذي لا يشبهك أو قد تختار الطريق الأمثل في وجهة نظرك لكنك لن تنجو من ضميرك الذي سيخبرك مرارًا أن خيارك خاطئ وأن بإمكانك الحصول على وظيفة أنسب وجني مال أكثر وتحقيق شهرة أوسع.
كيف تصنع خطتك المستقبلية المضمونة؟
في الحقيقة أنا مثلك لا أعرف إجابة السؤال ولا زلت أقف في منتصف تلك المسارات المتعددة التي أجهل نهايتها ولا أعرف أيها أسلك لكني كتبت هذا المقال لأشارك ما أدركته من خلال بحثي المستمر عما يضمن لي نجاح باهر واسم لامع وعلم نافع وهو أنه لا وجود لتلك الضمانات وأن الخطة المثالية لحياتك قد تكون في مكان بعيد كل البعد عما أنت عليه الآن أو ما قد تظن أنه المكان الأنسب لك.
نحن كأشخاص اليوم حصيلة تجاربنا الناجحة والفاشلة لحظاتنا السعيدة والحزينة معاركنا المنتصرة والمهزومة وما نمر به اليوم من مشاعر شك وعدم يقين أو ما أُختِصر بمصطلح «أزمة مقتبل العمر» ما هي إلا أحد تلك المعارك العديدة التي سنخرج منها بمعتقدات جديدة وغنائم عديدة ودروس عظيمة واكتشاف لقدراتنا المهملة، المعركة قائمة لا محالة كغيرها من معارك الحياة ومفتاح خروجك منها منتصرًا هو أن تسمح لنفسك بانتهاز الفرص دون التفكير في النتيجة وأن تخرج نفسك من الإطارات العديدة التي وضعت حولك دون أن تشعر، أنت لست مسؤولًا عن اتجاه القدر لكنك مسؤولٌ عن ردة فعلك تجاه المسارات الجديدة والتغيرات المفاجئة، فالأصل في الحياة هو الاختبار والامتحان وما يهم حقًا في نهاية المطاف هو القيم التي حافظت عليها والمبادئ التي لم تتخلى عنها والأثر الطيب الذي خلفته، يقول الكاتب محمد أبو الغيط -بتصرف- «لا حيلة لنا أمام الكثير من الأقدار، ولا حيلة لنا بالمشاعر لكن لنا حيلة بأفعالنا، أو على الأقل السعي في ذلك دون ضمان النجاح. فلا إنسان كامل أبدًا، وكلنا، كلنا بلا استثناء، قد نمر بأوقات من النقص والخوف والأنانية والطمع وغيرها من الأخطاء والخطايا، لكن الفارق هو بين من يترك نفسه لتلك الأهواء، وبين من يعيها ويواصل الصراع معها بنسب نجاح وفشل متفاوتة، يغالبها، و«يسدد ويقارب»، قدر الإمكان».
ما أحاول تذكير نفسي به على الدوام في رحلتي لصنع الحياة التي أريد هو أن أحدد القيمة قبل الهدف وأن أهتم بالعائد المعنوي بقدر اهتمامي بالعائد المادي وألا أحصر سعادتي في قالب معين وأن استبصر حكمة الله في الأقدار خيرها وشرها.