لـ زهراء الكردي
في عصر يتسابق فيه رواد مواقع التواصل الاجتماعي على تقديم محتوى يومي لتتصدر أسماؤهم خلفية هواتفنا كل صباح، وننام على صدى أصواتهم كل ليلة، تزاحم أفكارهم حياتنا، وتضاعف نبض معيشتنا. نخرج من بيوتنا المطلية بألوان لا تشبهنا، ونحن مرتدين ملابس لا تمثلنا، ولكنها تجعلنا مجرد نسخة طبق الأصل عن كلما شاهدناه وما زلنا نشاهده عبر شاشات هواتفنا. لكن ماذا لو توقفنا قليلًا؟ ماذا لو قررنا البحث عما وراء الشاشات؟ هل سنفقد شعورنا بالأمان والاندماج بالمجتمع؟ أم سنصل إلى معنى الحرية؟
“تجاهلني إن لم أعجبك”
هي عبارة تتردد على مسامعنا بين الفيديو والآخر. قد تبدو منطقية، لكن يبقى السؤال:هل يمكننا حقًا تجاهلهم وعدم التأثر بأفكارهم؟ للأسف، الإجابة هي “لا”. بمجرد الدخول إلى التطبيق يجب أن تدرك فكرة مهمة جدًا، وهي أنك شبه محبوس، وقد يستغرق فك الحبال التي تقيدك نصف ساعة على الأقل. خلال هذا الوقت، ستتعامل مع المئات من الأشخاص، وستستمع لأفكار ونصائح من حول العالم، ومن جميع الثقافات بغض النظر عما إذا كانت تناسبك أم لا. ذلك يعود علميًا إلى إدمان الدوبامين الناتج عن تصميم مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة احترافية تحفز إنتاجه. لذلك، لا يمكننا إنكار أن عقولنا أصبحت تتبرمج وفقًا لما قاله مدير المنتجات السابق في جوجل، ترستان هاريس: “هذه المنتجات من أجهزة وتطبيقات وخصوصًا منصات التواصل الاجتماعي، مصممة لإعادة تشكيل عادات المستخدمين.” وشبهها بماكينات القمار، حيث يسحب المستخدم دون أن يشعر صفحة التحديث في التطبيق للأسفل ليظهر له آخر المستجدات على هذه المنصة. وكلما قل وعي الشخص وإدراكه لخطورة ما يتعرض له، زادت فرص استغلاله وجذبه لاستهلاك أكبر قدر من المحتوى الرقمي، وكل ذلك يؤدي إلى نهاية وحقيقة واحدة نراها كل يوم وهي شخص ممتلئ بالفراغ وتتراقص في رأسه صدى أصوات مئات المؤثرين دون أن يتأثر حقًا بأي شخص منهم، وذلك لأن معظمهم قد لا يكونون أهلًا للثقة، ولا يملكون الإمكانيات التي تؤهلهم للظهور أمام الجمهور وتقديم النصائح وبث الأفكار لهم.
كيف صمموا لك قالبًا؟
ألم تشعر يومًا أنك تشبه جميع من حولك؟ تشبههم بطريقة مريبة، تشبههم ولا تعرف نفسك. تنظر إلى المرآة فترى شخصًا غريبًا لكن مألوفًا. وهذه يا عزيزي إحدى عجائب عصرنا. فأنت تستمع إلى عبارات تشجعك على الاختلاف والتغيير طوال الوقت، لكن في النهاية تجد نفسك تنساق وراء كلما هو رائج، وكلما يروج له رواد مواقع التواصل الاجتماعي أو ما يطلق عليهم بـ”المؤثرين”. ندور في هذه الحلقة حتى نصبح نسخًا من بعضنا نرتدي الملابس نفسها، ونحمل نفس الأفكار التي بثت إلينا من خلال الشاشات الصغيرة. فنفقد الاختلاف وحرية المعتقد والرأي، وتضيق آفاقنا، وتتضاءل إنجازاتنا، ثم نتحول إلى مجرد جمهور مسير للتصفيق والتشجيع ودعم كل وجه جديد، يتراقص على أنغام الموسيقى، أو يعطينا نصائح لإكمال حياتنا دون أن نطلبها. تُفرض علينا وتؤثر في طريقة تفكيرنا، ونفقد قدرتنا على رؤية الحياة من منظورنا الخاص، ونرى الحياة من وجهة نظر المؤثر التي نعتقد أنها النظرة الأفضل والأصح. فتمر السنين بنا، ونحن ندفن رؤوسنا في الهواتف، ونفقد القدرة على الشعور بالوقت، ونكتفي بالاستمتاع بالتجارب والمغامرات من وراء الشاشات، ونظن أننا بذلك اكتسبنا الخبرة الحقيقية، دون أن نعي حقيقة أن الإنسان هو حصيلة تجاربه الشخصية، وليس ما يسمعه من كل من هب، ودب في مواقع التواصل الاجتماعي.
الناجي الوحيد
هل هناك طريق للنجاة؟ بالتأكيد يوجد عدة طرق للخروج من هذا السجن الذي فرض علينا، وأفضل طريقة من وجهة نظري هي الإقلاع التام عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وإن كانت تبدو كفكرة صعبة وشبه مستحيلة، ولكن لا يمكن إنكار فوائدها الفعالة في إجبارك على إيجاد حلول لكسر شعورك بالملل دون الاستعانة بهاتفك. فتبدأ بالبحث عن مسارات أخرى للشعور بالسعادة والرضا. وفي وقتنا الحالي، يمكنك استخدام التطبيقات التي تقوم بإغلاق منصات التواصل الاجتماعي في حال عدم قدرتك على إزالتها تمامًا. بمجرد تقليل الوقت الذي تقضيه غارقًا في تلك التطبيقات ستبدأ بملاحظة الفرق في حياتك وصحتك النفسية. ستشعر أنك لم تعد تنتمي إلى ذلك العالم الذي يتكون من قاعدة جماهيرية كبيرة يتبعون أشخاصًا متشابهين، وقد تلاحظ الفرق حين يقول أحدهم جملة قد تبدو غريبة بالنسبة إليك ثم تكتشف لاحقًا أنها مجرد “ميم”. ولن يهمك حقًا السعي وراء فهم كلما يقال حولك لأنك ستكون قد وصلت إلى غايتك في التحرر من قيود إدمان وسائل التواصل الاجتماعي، وستبدأ باكتشاف ذاتك، وتلاحظ اختلاف سرعة يومك الذي كنت تعتقد أنه سريع، وأن بركته قد اضمحلت.
وأخيرًا، كما قال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: “لستُ متأكدًا هل أنا موجود أم لا؟ أنا كل الكتّاب الذين قرأت لهم، وكل الناس الذين قابلت، وكل النساء اللواتي أحببت، وكل المدن التي زرت. ” وبهذه الكلمات يعطينا معنى عميق للحياة، وأمثلة عن تجارب إنسانية قد تفوتنا إذا لم نضع حدًا لكل ما يلهينا عن عيش حياتنا بحرية، بقوانين خاصة بنا، دون أن يرسم حياتنا شخص من وراء شاشة، قد لا يكون أكثر منا علمًا، ولا أعلى منا شأنًا، فتضيع أعمارنا في الاستماع إلى تفاهات لا تعنينا، ولا تمثلنا ونفقد أغلى ما يملكه الإنسان وهو عقله.