هل بالغنا في تقدير ثقل الكلمة على أرواحنا حتى تركنا لها السلطة لتهدم علاقاتنا وتفوّت مصالحنا في بعض الأحيان إن كان الحديث عن علاقات تعاقدية مثل علاقاتنا بزملاء العمل ورؤسائنا؟ في الحقيقة من الصعب تجاهل أثر كلمة قاسية جاءت من شخص غير متوقّع أو في وقت ومكان غير مناسبين لاستقبال مثل تلك الكلمة. لكن قدرًا من المبالغة بدأ يطفو على السطح في أهميّتها حتى بات الفرد يقبل لسانًا معسولًا بلا أفعال ولا يقبل من له هفوات لسانيّة وإن كان داعمًا، محفزًا وساندًا في الأوقات الصعاب.
ترتبط المسألة الأخيرة جزئيًا بالفردانية؛ حيث أن الجرعات المتزايدة من الفردانية جعلت الفرد مهيئًا للعيش بمفرده ومستعدًا للذود عن ذاته وحمايتها و دعم نفسه كذلك. وعليه فلا يريد من الآخر سوى كف اللسان كفًا تامًا حيث لا تصدر منه زلّة واحدة وإن كان له محاسن. فلا مغفرة إن مُسّت الذات المقدّسة و إن كانت الذات ذاتها تستقبل أفعالًا داعمة من الآخر، لكننا وصلنا إلى مرحلة نفضّل معها أن نخسر كل المكاسب من وراء علاقتنا طالما سيكون مع الورد شوكة واحدة! وهذا بلا شك يرتبط جزئيًا بالاستهلاكية التي وصل إليها الأفراد في هذا العالم الذي يعدهم بمنتجات خالية من العيوب، فلم لا قد يحصل المرء على علاقة بلا زلل وفائدة بلا تبعات.
ولو عدنا لنأخذ المسألة بنظرة أكثر شمولية سنلاحظ أن هذه المبالغات في تقدير ثقل الكلمة تصنع لنا أناسًا مهوسين بانتقاء الكلمة و كذلك بالظهور بأعلى قدر من الأناقة مظهرًا وتصرفًا لكنهم فارغون تمامًا إن جئت لتبحث عن أفعال وإيثار وعطاء. فأصبح المشهد الحالي أننا نتعامل مع صورة قائد لا قائد ونرتبط بصورة زوج لا زوج ونرافق صورة صديق! لأن ذلك ما يطلبه السوق البشري من العلاقات بهشاشته العالية تجاه كل ما يمس ذاته حيث لم نعد نقدّر العلاقات بناءً على ما هو إجمالي وتراكمي حيث يهوي في لحظة أمام زلّة لسان أو تصرف خاطئ وحيد في بحر من الحسنات.
إن ذلك المنتج الخالي من العيوب، سنقضي حياتنا ونحن نطرد وراءه طرد السراب؛ لذلك من يريد أن ينجح في علاقاته ويحافظ عليها فإن عليه أن يقيّمها تقييمًا مجملًا وذلك في شتى أنواع العلاقات، العاطفي منها والأسري والعملي. يحضرني حاليًا اثنان عملت معهما، أحدهما منمّق الكلمات فلا تكاد تخرج منه عُشر كلمة خاطئة، لكنه في الوقت ذاته لا يخرج منه عُشر عطاء حقيقي، ولا عُشر دعم حقيقي ولا يستفاد منه درس واحد ولا مهارة واحدة. في مقابل آخر لا يبخل بمعلومة بحوزته، ثقته بالآخر مرتفعة جدًا، داعم حقيقي، معلم من الطراز الأول لكنه لا يهتم كثيرًا بكلماته.
لا أعلم ماذا يختار القارئ، لكني أختار الأخير؛ لأن معاشرة الواثق ثقة ومعاشرة القوي قوة ومعاشرة المعلم ثراء معرفي. قد يقول بعضهم وما ثمن الكرامة وما موقع صون الذات من كل هذا؟ بالتأكيد لا يجب أن يقبل المرء إهانة في مقابل الحصول على فائدة، لكن الحقيقة أنه من غير المنطقي ألا يحترمك شخص يدعمك، وألا يحترمك شخص يقويّك وألا يحترمك شخص يثق فيك. وتأتي هنا مهارة مهمّة وهي مهارة إضفاء المعنى على الأفعال لتستطيع أن تستنبط منها موقعك بالنسبة للآخر.
سواء قال لي أو فعل لي، كلاهما معايير لتقييم موقعنا بالنسبة للآخر لكن للأسف مع الفردانية والهشاشة والاستهلاكية والسيولة أصبحت “قال لي” هي المعيار الوحيد. حيث أن عقولنا كسولة عن تحليل أفعال الآخر في العلاقات وإعطائه مكانته الحقيقية بناء على ما يقوم به تجاهنا. والغريب أن المرء المفرط في حماية ذاته من الكلمة لا يمانع أن يدع ذاته في علاقة بلاستيكية تقوم على تمثيلية كلاميّة عاريّة الأفعال، حيث يكاد يفضّل علاقة كهذه على أي علاقة تحوي دعمًا وعطاءً حقيقيًا. ربما يقول بعضنا، ولم لا نحصل على الكلمة والفعل في آن واحد، لكن النقص البشري لا يضمن لنا هذا الشكل من العلاقات على الدوام، ولا توجد علاقة بلا أذى سواء العلاقة البلاستيكية التي بلا نفع.
لذلك يأتي السؤال: هل علينا إعادة النظر في تقدير أثر الكلمة؟ هل أتى الوقت لأن نرى مؤلفّات عن حماية العلاقة من زلّات اللسان؟ وأخرى عن مهارات تقييم العلاقة تقييمًا تراكميًا يجعل المرء قادرًا على تحليل أهميتها وهل نتركها ضحيّة لكلمة أم أنها علاقة ثريّة تستحق الغفران؟ وهل ما زال في عصر الفردانية والاستهلاكية والهشاشة والسيولة مقدرة على الإصلاح والمغفرة والتعايش؟ أم أننا في عصر الإنسان الصوّري الحسّي الذي وعدته الرأسمالية بأعلى قدر من الرفاه؟